توفرت منذ البداية ، إذ راح الانتداب والاستيطان يحثان الخطى نحو تغييب العرب الفلسطينيين عن وطنهم ، كضرورة لتحقيق الهدف المعلن لهما ـ تحويل فلسطين إلى «وطن قومي يهودي». وكان طبيعيا أن يرفض الفلسطينيون ذلك ، وأن يقاوموه بما لديهم من طاقة على الفعل. وعلى هذا الصعيد ، لم تتوفر لهذا الجزء من الأمة العربية ، الذي عزل عن عمقه الاستراتيجي بالتقسيمات الاستعمارية للوطن العربي بعد الحرب ، المقومات الذاتية لإشعال الثورة. وإذ كانت حالة الوعي لأخطار المشروع الصهيوني متقدمة ، فإن أوضاع الشعب الفلسطيني السياسية والاجتماعية بعد الحرب ، لم تكن مهيّأة لإدارة صراع مع الاستيطان والانتداب ، بالمستوى نفسه من الحدة ، الذي يتوازى مع درجة احتدام التناقض المتولد من الجمع بين هذه الأضداد في وحدة صراعية.
ولأن حكومة الانتداب لم تتطابق في أسلوب عملها تماما مع الوكالة اليهودية ، وذلك لحسابات بريطانيا الإقليمية والدولية ، بينما الوكالة تستعجل وضع يدها على فلسطين من دون أن تكون مهيّأة لذلك ، فقد اتخذ الصراع المثلث الجوانب آلية معينة ، راحت تتكرر بحركة لولبية متصاعدة نحو الاحتدام وانفجار الثورة العربية (١٩٣٦ م). فإزاء المقاومة العربية للهدف المشترك بين الانتداب والاستيطان ، سلكت حكومة الانتداب سبيل التطويع السياسي المتأني ، في مقابل النهج الذي اعتمدته الوكالة اليهودية ، والذي يطالب حكومة الانتداب بفرض المشروع الصهيوني قسرا على الفلسطينيين. وعندما لم تستجب هذه الحكومة لمطالب الوكالة ، كانت العلاقة تتوتر بينهما مرحليا ، فتهدأ المقاومة العربية مرحليا أيضا ، ثم لا تلبث أن تتصاعد عند ما يعاود الحليفان نشاطهما لتحقيق خطوة جديدة على طريق التهويد. وعندها ، تتراجع حكومة الانتداب تكتيكيا ، فتندفع الوكالة اليهودية قلقة على مصير مشروعها ، وتتحرك على الصعيد الدولي ، وخصوصا على محور لندن ـ واشنطن ، بينما تتوصل القيادة الفلسطينية ، إلى تفاهم ما مع حكومة الانتداب ، وتهدأ الأوضاع مرحليا ، وهكذا دواليك.
ولكن مع بداية الثلاثينات ، راح الوضع يتفاقم نتيجة صعود النازية في ألمانيا ، وبالتالي ازدياد حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين بالوضعين ، الشرعي وغير الشرعي. فعمّ التململ جميع أنحاء فلسطين ، وأعلن الإضراب العام الذي دام ستة أشهر ، وبالتالي اندلعت الثورة المسلحة (١٩٣٦ م) ، التي استمرت حتى إعلان الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ م). وفي الأعوام العشرين الفاصلة بين الحربين العالميتين ، تبلورت الملامح الرئيسية للمشروع الصهيوني. فقد شكلت أجهزة الحكم الذاتي اليهودي ، إضافة إلى هيئات الوكالة اليهودية في لندن وفلسطين. وكذلك أنشئت المؤسسات الاستيطانية التي تغطي جميع نواحي العمل اللازم لتهويد فلسطين. لكن