وإذ لم يكن الشعب الفلسطيني مؤهلا ، لا ذاتيا ولا موضوعيا ، للقيام بعمل اللازم لدحر المشروع الصهيوني ، فإن هذا الأخير لم يكن أيضا قادرا على فرض نفسه واقعا على الأرض في أعوام الانتداب الأولى ، كما رغبت المنظمة الصهيونية. ولذلك ، اتخذ الصراع بشأن فلسطين نمطا من الاشتباك المستمر ، تشتد حدته أحيانا كردة فعل عربية على احتدام التناقض الناجم عن الفعل الصهيوني ـ البريطاني ؛ ثم لا تلبث أن تخبو عندما يتراجع الطرف الآخر تكتيكيا. ونظرا إلى طبيعة هذا المشروع الاستيطانية الإجلائية ، لم يكن هناك مجال للتوصل معه إلى حلول وسط. فهو كما طرح ، لا يدع مكانا لأهل البلد الأصليين فيه ، بل يرمي إلى اقتلاعهم ، وإحلال مستوطنين يهود مكانهم. وهو يفترق عن أنماط الاستعمار الاستيطاني الأخرى ، بأنه لا يستهدف استغلال الأرض بمن عليها من سكان أصليين ، وإنما يخطط لاغتصاب الأرض ، والتخلص من أصحابها. ومع ذلك ، وفي غياب قدرة أي من الأطراف المنخرطة في الصراع على حسمه لمصلحته ، فقد برزت داخلها تيارات واتجاهات ، تتفاوت تطرفا أو مرونة بالتكتيك ، غير أن الأساس التناحري ظل يحكم سلوك القوى المركزية في هذا الصراع على الجانبين.
إن التناقض الذي تشكل في فلسطين نتيجة الترتيبات التي اتخذت بشأنها بعد الحرب العالمية الأولى ، بعيدا عن مصالح سكانها ، كان جذريا يستهدف أساس وجود الشعب الفلسطيني في وطنه ، وبالتالي كان يستوجب حلا على هذا المستوى. لكن موازين القوى لم تكن تسمح بمثل هكذا حل. وإذ كانت حالة الوعي لأخطار المشروع الصهيوني متقدمة لدى جماهير الشعب الفلسطيني الواسعة ، كما لدى قيادته السياسية ، فإن أوضاعه الاجتماعية لم تكن مهيّأة لإيجاد الحركة النضالية القادرة على ترجمة هذا الوعي إلى ممارسة عملية ، ذات أداء عال ، يفرض الانكفاء على الطرف الآخر. ومع ذلك ، فأشكال النضال التي مارسها الشعب الفلسطيني ، وإن لم تكلل بالنجاح في دحر المشروع الصهيوني ، فإنها عرقلت تجسيده لأهدافه ، وأخّرته إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد راوحت تلك الأشكال النضالية بين العمل السياسي والدبلوماسي ، مرورا بالمقاومة السلبية ، ووصولا إلى الانتفاضات الثورية العنيفة ، كما تأرجحت بين مدّ وجزر ، تبعا لحركة الطرف الآخر ، الذي كان زمام المبادرة في يده ، وبلغت مستويات من الحدة ، تتأثر بدرجة احتدام التناقض المتولد عن تلك الحركة ، من جهة ، وبحالة الشعب الفلسطيني الاجتماعية والسياسية ، من جهة أخرى.
ولأن الحركة الصهيونية لم تستطع تهويد فلسطين باليهود ، كما طرح ماكس نوردو ، فقد عمدت ، بالتواطؤ مع الانتداب ، إلى الحؤول دون تكريس الواقع القائم