الفصل الثاني
عصور التاريخ الأولى
مقدمة
يعتبر ابتكار الكتابة عتبة العبور من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية الأولى. ويتفق العلماء حاليا على أن هذا الحدث المهم في مسيرة الحضارات البشرية الطويلة ، وقع في بلاد ما بين النهرين (العراق) ، في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد ، ثم انتقل بتواتر سريع إلى مناطق الشرق الأدنى القديم الأخرى. وبابتكار الكتابة ، صار الناس يسجلون الأحداث المعاصرة ، وعبر الوثائق المكتوبة ، انتقلت المعرفة بهذه الأحداث من السلف إلى الخلف. وقد وصلت إلينا على صورة لوحات نقشت عليها رموز ، عمل العلماء على فكّها. وبقي الأقدم منها أكثر غموضا ، كما أنه الأكثر ندرة بطبيعة الحال.
لكن الكتابة ليست المركب الوحيد الذي آذن بدخول العصر الجديد ، وإنما تواكب ذلك مع ظاهرتين أخريين ميّزتا حضارة هذا العصر ، على الأقل في جانبها المادي ، وهما : بناء المدن الكبيرة ، وانتشار استعمال المعادن ـ بدلا من الصوان ـ إلى جانب الفخار. وبناء عليه ، يعتقد العلماء أنه كما يصح التقسيم إلى ما قبل التاريخ وما بعده ، على أساس ابتكار الكتابة ، يصح كذلك التقسيم على أساس التمييز بين ظاهرة بناء المدن وما سبقها. كما يمكن تقسيم التاريخ بحسب المواد الأولية التي استعملها الإنسان بصورة رئيسية في تشييد حضارته المادية ـ الصوان والفخار والمعادن ـ وكل منها في حينه ، وبحسب شيوع استعماله.
وإذا كانت الوثائق الأولى ، على قلتها ، لا تزال غير مفكوكة الرموز بالكامل ، وبالتالي فهي لا توفر لنا المعلومات الكافية ، فإن بقايا المدن الكبرى الأولى لا تزال مدفونة تحت طبقات سميكة من التراب والحجارة ، ومعلوماتنا عنها قليلة نسبيا. وبناء عليه ، فالباحثون في هذا العصر يعتمدون كثيرا على وثائق من فترات لاحقة ، تطرقت ، بصورة أو بأخرى ، إلى أحداث سابقة ، ولكنها خارج ذلك الزمان أو المكان ، وتستوجب التمحيص في مقدار دقتها وصدقيتها. أمّا أعمال التنقيب فمستمرة ، وهي كلما تقدمت قدمت المزيد من المعلومات ، وحفريات إبلا تشكل دليلا على ذلك.