ويتفق العلماء على أن الكتابة ظهرت في مجتمعات المدن ، وأن الحافز على ابتكارها كان تطور المعاملات الاقتصادية ، في مجتمع مركب ، يقوم على اقتصاد منوّع ، فيه درجة عالية من التخصص ، وتؤدّي التجارة دورا متعاظما فيه. وبعض النصوص الأولى التي وصلت إلينا لا تعدو كونها سجلات لأمور تتعلق بالحياة اليومية ، مثل عدد رؤوس الحيوانات وأنواعها ، التي أودعها المالك في يد الراعي للعناية بها ، وما شابه. وراحت هذه النصوص تتطور ويتسع استعمالها وانتشارها بالتواكب مع تطور العلاقات ، الداخلية والخارجية ، لمجتمع المدن ، وفي المجالات جميعها ـ الاقتصادية والحضارية والبشرية ـ وبحسب مقتضيات ذلك التطور كمّا ونوعا.
ويبقى النمو السكاني العنصر الأساسي في قيام المدن وتطور اقتصادها وتنوعه ، ثم يليه التراكم الرأسمالي ، كعنصر رئيسي ثان في حضارة المدن. وهذان العنصران يحفزان على تطوير الكتابة ، كوسيلة فعلية لتسيير التعامل الاقتصادي والتفاهم الفكري ، بمواكبة التوسع في العلاقات المجتمعية كافة ، داخليا وخارجيا. ففي المدن ازداد نبض الحياة ، وبالتالي التفاعل الحضاري الداخلي ، الذي لم يلبث ، بفعل التخصص وفائض الإنتاج أن استنفد إمكاناته الداخلية. فراح يبحث عن آفاق جديدة ، وعلى نطاق أوسع وأشمل. وفي الشرق الأدنى القديم طال جميع أجزاء المنطقة ، الأمر الذي ينعكس في التأثيرات الحضارية المتبادلة ، مادّيا وروحيّا.
وفضلا عن العدد الكبير من السكان الذي تركز في المدن ، وما استتبعه من تغيير في نمط الإنتاج الاجتماعي وعلاقاته ، تميّزت المدن من القرى التي سبقتها بظاهرتين بارزتين : الأبنية العامة الشاهقة والضخمة ، والتحصينات الدفاعية. وإذ كانت الأولى عامل جذب سكاني إلى المدن في زمن السلم والازدهار ، فقد قامت الثانية بهذا الدور في زمن الحرب. والأكيد أن اكتشاف البرونز ، واستعماله على نطاق واسع ، ساعد مجتمعات المدن على تشييد هذه الأبنية والتحصينات. إلّا إنّ العامل الأساسي الذي مكّن من ذلك ، هو وجود مجتمع منظم ، تسوده علاقات متطورة ، وتحكمه سلطة مركزية فاعلة ، وهو يمتلك المعارف والأدوات اللازمة للقيام بالعمل المطلوب.
وهناك بالضرورة علاقة جدلية بين ازدهار المدن وارتقاء النظام الاجتماعي. ويتضح أن التطور على هذا الصعيد كان في اتجاه تبلور الملكية الاستبدادية ، المرتكزة على الآلة العسكرية ، وصولا إلى قيام الإمبراطوريات ، متعددة الأجناس والشعوب. والازدهار مرتبط بفائض الإنتاج ، وبالتالي تراكم رأس المال ، وتعزيز التخصص وتطور الحرف والتجارة. وباستثناء الظاهرة الفريدة في فلسطين ـ أريحا ـ كان جنوب العراق