المدن الأولى المزدهرة الصدام مع الغزاة ، ومن ثمّ ، بعد توسعها ، الصراع بين بعضها البعض. وعندما صارت الحرب نهجا ، تشكلت التحالفات ، وانتهت بانتصار هذا الطرف أو ذاك ، وبالتالي إخضاع الآخرين ، وما يستتبعه من تمرد على المحتل عندما تلوح الفرصة. وبسبب الانفتاح على المحيط ، سلبا أو إيجابا ، تبلورت في العراق مبكرا فكرة الإمبراطورية الكونية ، وتلقت بلاد الشام ـ التي بسبب تنوّع تضاريسها الطبيعية غابت عوامل الوحدة السياسية بين مدنها ـ الصدمة الأولى المعروفة تاريخيا لهذه النزعة لدى الكيانات السياسية الكبيرة التي قامت في العراق.
في المقابل ، وخلال فترة قصيرة بعد ازدهار حضارة وادي الرافدين ، وما نجم عن ذلك داخليا وخارجيا ، برزت حضارة مثيلة في وادي النيل. وبسبب الفوارق في الأوضاع الطبيعية ، وكذلك عوامل النشأة والتطور ، تباينت الحضارة المصرية ، شكلا ومضمونا ، عن الحضارة العراقية. وبناء عليه ، تباين أثر كل منهما في بلاد الشام ، الواقعة في الوسط بينهما ، فكانت تشكل أحيانا حاجزا يفصلهما ، وأخرى جسرا يجمعهما ، سلما أو حربا. وعزلة وادي النيل الخصيب ، التي فرضتها الصحارى الواسعة ، أكانت من الشرق أم من الغرب ، تركت آثارها الواضحة في سلوك الدولة المركزية المصرية ، داخليا وخارجيا ، بما في ذلك بلاد الشام. وإذ كان النيل العظيم عامل وحدة رئيسيا لواديه ، فإن رتابة دورة فيضانه ، وبالتالي انتظام الدورة الزراعية على ضفافه ، فضلا عن الحواجز الطبيعية التي قلصت فعل المؤثرات الخارجية فيه ، جعلت التطور السياسي في وادي النيل أكثر استقرارا منه في العراق.
ومع ذلك ، وعلى الرغم من الفوارق في أوضاع النشأة ، وبالتالي في مسالك التطور بين حضارتي العراق ومصر ، فإن ازدهارهما المتزامن في الشرق الأدنى القديم ، جعل الصراع بينهما حتميا ، كما جعل من بلاد الشام ساحة لهذا الصراع. وبناء على ذلك ، فإن تاريخ المنطقة ، ولعصور طويلة ، يجب أن يروى أساسا من مفهوم التفاعل ، سلبا أو إيجابا ، بين هذين المركزين الحضاريين ، بما يتركه ذلك من أثر في بلاد الشام ، بدويلاتها المتعددة ، وردات فعلها على حركة هذين القطبين. وفي الواقع ، قامت مدن كثيرة في بلاد الشام ، معاصرة للمدن في كل من العراق ومصر ، لكنها ظلت أصغر حجما وفعلا ، وأقل قوة وأثرا.
أولا : عصر المدن الأولى
يكشف علم الآثار أن الكثير من مدن فلسطين التاريخية المهمة قد بنيت في عصر البرونز القديم ، أي بداية الألف الثالث قبل الميلاد. لكننا لا نملك حتى الآن