شهادة مكتوبة واحدة على ذلك. والوثيقة الأقدم المتوفرة تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، أي من عصر سلالات المملكة الوسطى في مصر ، التي كانت لها سيادة على أرض كنعان. إلّا إن الحفريات والمسوحات الأثرية تشير إلى أن منعطفا حضاريا حدث في فلسطين ، بموازاة التطورات الكبيرة في العراق ومصر ، وإن على مستوى أدنى. ويبرز هذا المنعطف من خلال كثافة الاستيطان المديني الجديد في فلسطين ، وذلك باستثناء أريحا ، التي تشكل ظاهرة فريدة ، سبقت عصرها بآلاف السنين.
وبقايا تلك المدن تقف اليوم في أغلبيتها على صورة تلال اصطناعية ، وتحمل في كثير من الأحيان الاسم تل. وهذه التلال منتشرة في جميع أنحاء فلسطين ، ولكل منها خاصيته الاقتصادية أو الاستراتيجية. وقد استمرت هذه المواقع فترات زمنية طويلة ، وشهدت تقلبات سياسية ، كانت في كثير من الأحيان عاصفة. فهدمت المدن بأسوارها ومبانيها ، ثم أعيد تشييدها في الموقع نفسه ، فتشكلت بذلك هذه التلال الاصطناعية. وعبر التنقيب في هذه التلال اكتشفت آثار الحضارة المادية والروحية لسكان تلك المدن القديمة. ويلفت الانتباه في نتائج التنقيب الغنى الأثري في مقابل الشحّ في الوثائق المكتوبة. ولعل الكتابة لم تكن منتشرة في هذا الجزء من الشرق الأدنى القديم ، على غرار مصر والعراق ، أو أن اللوحات المكتوبة قد اندثرت ، على عكس ما هو الحال في ماري وإبلا (سورية) وجبيل (لبنان).
وتكشف المسوحات الأثرية عن استيطان كثيف في جميع أنحاء فلسطين. ففضلا عن المدن (التلال) الكبيرة ، هناك عدد غفير من المستوطنات الصغيرة والمتوسطة. وعلى طول نهر الأردن مثلا ، تبرز كثافة هذه المواقع ، إذ لا يبعد أحدها عن الآخر مسافة كيلومتر واحد أحيانا. واللّقى الأثرية تكشف عن علاقات حضارية مع كل من مصر وسورية والعراق. وإذ يسمي المختصون هذه الفترة عصر البرونز ، فإن استعمال هذا المعدن لم يصبح شائعا إلّا بعد نحو ألف عام ، أي في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. ومهما يكن الأمر ، فالباحثون يقسمون هذا العصر إلى ثلاث مراحل :
الأولى : وتمتد من سنة ٣٣٠٠ ق. م. إلى سنة ١٨٥٠ ق. م.
الثانية : وتمتد من سنة ١٨٥٠ ق. م. إلى سنة ١٥٥٠ ق. م.
الثالثة : وتمتد من سنة ١٥٥٠ ق. م. إلى سنة ١٢٠٠ ق. م.
ومن تباين صور الاستيطان يستخلص الباحثون تنوّع أنماط المجتمعات في فلسطين وسواها ، خلال هذه الفترة المهمة. فإلى جانب المدن ، التي تشكل الظاهرة الجديدة المميزة لهذه الحقبة التاريخية عن سابقتها ، كانت هناك قرى ومزارع صغيرة