منتشرة ، كما عاشت جماعات حياة التنقل والرعي والصيد. وهم يستندون في هذا الاستنتاج إلى تنوّع عادات وتقاليد دفن الموتى ، وأشكال المقابر ، وهو ما يدل على وجهات نظر متباينة بشأن الحياة والموت وشخصية الإنسان وموقعه في المجتمع. ونظرا إلى تواتر تدمير المستوطنات ، وإعادة بنائها ، الأمر الذي يبرز من خلال تراتبية الطبقات في التلال ، يعتقد الباحثون أن هذا العصر شهد تحركات واسعة لجماعات بشرية ، دارت بينها حروب طاحنة على الأرض والموارد. وما التحصينات إلّا دلالة على ذلك ، إذ لا مدينة من دون أسوار.
ويستخلص الأثريون أن جماعات جديدة جاءت إلى فلسطين في عصر المدن الأولى ، وظلت الهجرات إليها تتوالى. ويؤيد علماء الأنثروبولوجيا ذلك ، من خلال التمييز بين أنماط متعددة من الهياكل العظمية المكتشفة في المدافن. ومع ذلك ، فهم يؤكدون أن العنصر السائد ظل إنسان حوض البحر الأبيض المتوسط ، أي العنصر الذي اصطلح على تسميته السامي ، والذي انتمى إليه النطوفيون ـ سكان فلسطين في العصور السابقة. ومن دراسة الحضارة ، المادية والروحية ، لسكان فلسطين في هذا العصر ، يستخلص الباحثون نتيجة مفادها أن فلسطين شهدت تمازجا ، عرقيا وحضاريا ، خلال الألف الثالث قبل الميلاد ، ليس له مثيل في تاريخ المنطقة. وهذا التمازج عمّ الشرق الأدنى القديم ، وأدّى دورا رئيسيا في صوغ حضارة هذا الجزء من العالم وتاريخه.
وإذ تتباين آراء الباحثين بشأن جنسية هذه الجماعات ، وأصولها العرقية ومواطنها الأصلية ، فإن أحدا لا ينكر الحضور المتميز للجماعات السامية ، التي يعتقد أن موطنها الأصلي هو الجزيرة العربية. ومن هذه الجماعات تفرعت الشعوب السامية القديمة المعروفة : الأكاديون والأشوريون والعموريون والبابليون والكنعانيون والأراميون وغيرهم. ولا يشك أحد في أن بين هذه الشعوب علاقات قربى ، عرقية ولغوية وحضارية. ومنهم من يقسم هذه الشعوب إلى سامية شرقية ، تبلورت شخصيتها ، وكذلك لغتها في العراق ، وأخرى سامية غربية ، تبلورت شخصيتها ولغتها في بلاد الشام. وهذه الأخيرة تدين باسم غربية إلى مصادر أكادية ، استعملت مصطلح عمورو ، أو أمورو ، للإشارة إلى الجماعات التي تعيش في بلاد الشام ، إلى الغرب من نهر الفرات.
ومن الواضح أن بلاد الشام ، وضمنها فلسطين ، لم تكن معزولة عن الثورة التي أحدثها قيام مدن ـ الدولة في مصر والعراق. وإن تأخرت عنهما بعض الوقت. وبينما سار العراق ومصر ، وكل منهما لأسباب خاصة ، على سكة الدولة المركزية