كافية ، عمدت مدن ـ الدولة هذه إلى بناء قوتها العسكرية ، وسرعان ما انتقلت بدورها من الدفاع إلى الهجوم مع احتدام التناقض ، سواء مع الجماعات الغازية ، أو مع المدن الأخرى المنافسة ، بشأن الأرض أو الموارد أو من أجل الهيمنة. وتحولت الآلة العسكرية إلى حاضنة للسلطة ، ومن صفوفها برز الملوك ، وبسيوفها فرضوا سلطانهم وهيبتهم ، وبدماء جنودها حققوا أحلامهم التوسعية.
والمدن السومرية ، التي قامت ورسالتها خدمة الإله ، مالك الأرض ، وواهب نعم السماء ، وبالتالي تمحورت حول الهيكل ، حيث يقيم وكلاء الإله ـ الكهنة ـ ويديرون شؤون ملكه ، تحولت مع الزمن ، وبتطور متدرج ، يحكمه التفاعل بين الذاتي والموضوعي ، إلى مراكز للسلطة ، تتمحور الحياة فيها حول بلاط الملك. وإذ لم يختف الهيكل وكهنته ، فإنهما أصبحا في خدمة الملك ، الذي صار نائب الإله على الأرض ، بل تجسيده المادي ، أو هو نفسه أحيانا. وهكذا تنازلت المدن السومرية ، بقيادة الكهنة ، وبمجتمعها القائم على استرضاء الآلهة بدلا من الحرب ، عن مكانها لمدن الدولة العسكرية ، لأنها لم تكن في موقع يؤهلها للتعامل الناجع مع الغزاة من القبائل الرحالة ، التي كانت تجيد مهنة القتال ، ولا تتورّع عن الحرب في سبيل العيش الرغيد كسادة لسكان المدن.
والنمط السياسي الذي ساد في فلسطين في بداية عصر المدن ، كان شبيها إلى حد كبير بذلك الذي قام في العراق ، لكنه تباين عن النمط المصري ، إذ كان الانقسام في البداية بين الشمال والجنوب ، مصر العليا في مواجهة مصر السفلى. لقد توحدت مصر في بداية الألف الثالث قبل الميلاد ، وقامت السلالة الأولى ، مبتدئة بذلك سلسلة طويلة من السلالات ، وكذلك جرى في العراق ، إذ تواكبت عملية التوحيد مع بدايات التوسع الإمبراطوري. وحتى في شمال سورية قامت مراكز مدينية كبيرة : ماري وإبلا ، وغيرهما ، بينما حافظت المدن الفلسطينية على استقلالها ، وبالتالي ، على تواضع دورها الحضاري بالنسبة إلى كل من العراق ومصر وسورية.
والمدن (التلال) الفلسطينية من عصر البرونز المبكر المنتشرة في جميع أرجاء البلد ، كانت على العموم تقع في نقاط استراتيجية ، تسيطر على المروج ، أو على طرق التجارة الدولية القديمة. ويقدر عدد المواقع التي تعود إلى هذا العصر في فلسطين بنحو ٩٠٠ مستوطنة ، منها نحو ٢٠ مدينة كبيرة ، ويقدر عدد سكانها مجتمعة بنحو ٠٠٠ ، ١٥٠ نسمة. وتشير الدلائل المادية على أنها كانت مزدهرة ، وتمتعت بتنظيم محلي جيد ، وأدارت تجارة دولية ناجحة ، فضلا عن الزراعة والصناعة ، لكنها ، في مقابل مدن العراق مثلا ، تبقى صغيرة الحجم والأهمية. ففي الوركاء (أوروك)