مانيتو (من عصر البطالمة) عنهم ، إذ يقول : «لا أعرف لماذا هبت رياح الغضب الإلهي علينا حتى تجاسر فجأة أناس من أصل غير معروف ، جاؤوا من آسيا ، فأغاروا في عهد الملك توتيمايوس على بلادنا مصر ، واستطاعوا بسهولة ، ومن دون قتال أن يستولوا عليها. وقد أسر هؤلاء القوم زعماء البلاد ، وأحرقوا المدن بصورة وحشية وهدموا معابد الآلهة ، وعاملوا السكان بمنتهى القساوة ، فقتلوا بعضهم ، وساقوا النساء والأطفال إلى العبودية ...»(١)
فالدلائل تشير إلى عكس ما يقول مانيتو ، إذ أدخل الهكسوس إلى مصر عناصر حضارية جديدة ، مادية وروحية ، في فترة كان الهبوط هو السمة العامة هناك. كما وفروا خلال حكمهم درجة عالية من الاستقرار بعد فترة من الاضطراب والصراع بشأن السلطة في مصر. وازدهرت في أيامهم العمارة والفنون والتجارة الدولية. وطوروا الكثير من الصناعات العسكرية وغيرها. ويبرز النسيج بين هذه الصناعات ، كما يتميّز الخزف الهكسوسي بألوانه وزخارفه وتقنيات صناعته. وهو ما تكشفه الحفريات في تل اليهودية وغيرها ، فضلا عن أنهم جلبوا إلى مصر الحصان ومركبة القتال والقوس المركب وصناعة الأسلحة البرونزية المتفوقة.
وعلى الرغم من أن الهكسوس حاولوا التقرب من سكان البلد الأصليين ، واتخذوا أسماء مصرية ، وأبدوا احتراما للعبادات المحلية وآلهتها ، بينما حافظوا على ديانتهم الخاصة ، فإنهم لم يفلحوا في الحفاظ على سلطتهم. ففي منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد ، شن أمراء طيبة الجنوبيون ما يسمى ب «حرب التحرير» ، وطردوا الهكسوس من مصر ، وطاردوهم إلى جنوب فلسطين ، فقاتلوهم في شاروحين (تل الفارعة الجنوبي) ، إلّا إنهم فشلوا في القضاء الكامل عليهم. ولذا ، فالفراعنة ، ومنذ السلالة السابعة عشرة فما بعد ، تلقنوا من عصر حكم الهكسوس درسا مفاده أن خط الدفاع الأول عن شمال مصر هو جنوب فلسطين ، فعمدوا إلى السيطرة عليه بصور متعددة.
ثالثا : الكنعانيون
قلة من الشعوب التي عمّرت فلسطين خلال تاريخها الطويل طبعت اسمها على البلد كما فعل الكنعانيون ، ومع ذلك يدور جدل حاد بين الباحثين بشأن هويتهم. وهذا الجدل لا يخلو من نزعات مغرضة ، ترمي إلى توظيف البحث في هذه المسألة
__________________
(*) Donald B. Redford, Egypt, Canaan and Israel in Ancient Times, p. ٨٩.