وبعد طرد الهكسوس من مصر (منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد) ، ومطاردتهم حتى مدينة شاروحين (تل الفارعة الجنوبي) ، وبالتالي وقوع جنوب فلسطين تحت النفوذ المصري ، فإن الوضع لم يتغير بصورة جذرية ، إذ إن المصريين لم يستبدلوا السكان ، بل اكتفوا بضمان السيطرة عليهم. ومن هنا ، فالكنعانيون ، الذين تربطهم صلات عرقية وحضارية ولغوية ، مع الممالك السورية ، التي بدورها أقامت صلات وثيقة مع العراق ، شكلوا حلقة وصل ، أو فصل ، بين المركزين الحضاريين ـ مصر والعراق ـ وأدّوا دورا مهما في العلاقات بينهما ، سلبا أو إيجابا ، تبادلا حضاريا ، أو صراعا سياسيا ، بكل ما نجم عن ذلك من تاريخ مشترك.
وفي هذا الإطار ، واستنادا إلى الخلفية السياسية لقيام إمبراطورية الهكسوس وسقوطها ، وإلى أرضية العلاقات الدولية التي تبلورت نتيجة قيام الممالك والإمبراطوريات في الشرق الأدنى القديم ، أدّى الموقع الجغرافي لفلسطين دورا حاسما في صوغ تاريخها في هذه المرحلة. لقد تعلم المصريون درسا مفاده أن خط الدفاع الأول عن الدلتا هو فلسطين ، على الأقل جنوبها. لكنهم لم يعمدوا إلى الاستيطان فيها ، بل اكتفوا بتعيين مندوبين لهم ، تدعمهم قوة عسكرية محدودة ، لضبط حركة الحكام المحليين ، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط الحركة التجارية بين مصر وسورية والعراق عبر المدن الكنعانية الواقعة على الطرق الدولية.
فغداة طرد الهكسوس أصبحت مصر تنظر إلى غرب آسيا نظرة جديدة ، وخصوصا لأهميتها الاستراتيجية في ضوء التطورات الجارية إلى الشمال ـ بروز دولة ميتاني (الكوشية) ، وإمكان تهديد مصر مرة أخرى على غرار ما فعل الهكسوس. وإذ كان الهمّ في البداية دفاعيا ، وبالتالي اتخذ صيغة الحملات التأديبية ، فسرعان ما تحوّل إلى سياسة هجومية ، ترمي إلى فرض السيادة الدائمة ، بما يعنيه ذلك من الحضور السياسي والعسكري الثابت. ومنذ البداية ، وعى المصريون أن السيطرة على أرض ـ كنعان لا تستتب عبر تغيير حكام المدن فيها ، فأبقوا عليهم ، ووضعوا لأنفسهم سياسة ، تجمع بين الترهيب العسكري والترغيب الاقتصادي ، للحفاظ على سلطتهم فيها.
والحروب التي شنها فراعنة السلالة الثامنة عشرة (١٥٧٠ ـ ١٣١٠ ق. م.) ، أكان ذلك في النوبة جنوبا أو أرض ـ كنعان شمالا ، قد بدأت عصرا جديدا في مصر ، هو عصر الإمبراطورية. ففي السابق ، ومنذ تأسيس الفرعونية ، كانت لمصر مناطق نفوذ ، سواء في الجنوب ـ النوبة ـ أو في الشمال الشرقي ـ غرب آسيا ـ ولكن هذه المناطق لم تضم ، أو يجري استيطانها مصريا. أمّا الآن ، فقد دخلت مصر على سكة