الأشوريين للتحرك وملء الفراغ الذي تشكل ، من جهة ، وأمام الأراميين للبروز كقوة في قلب سورية ، مركزها دمشق ، من جهة أخرى. وكذلك ، وإلى الجنوب تحرك العمونيون والمؤابيون والمدينيون والأدوميون والإسرائيليون ، لتثبيت استقلالهم على الأراضي الواقعة في أيديهم وتوسيعها ، وخصوصا على حساب الكنعانيين ، في وسط فلسطين وجنوبها.
ولأسباب متعددة ، أدّت الدراسات التوراتية دورا فيها ، يبرز الفلسطيّون إلى جانب الإسرائيليين ، من دون سواهما ، في أعمال المؤرخين والأثريين. وفي المقابل ، يغيب عن هذه الأعمال ، بدرجات متفاوتة ، الدور الذي قام به سكان البلد الأصليون ـ الكنعانيون ـ وكذلك نتائج استقرار القبائل العمورية والأرامية ، التي كانت تجوب هضبة شرقي الأردن ، وراحت تقيم ممالكها الخاصة وتبلور شخصيتها. فالتوراة هي الشاهد الوحيد المكتوب تقريبا على المرحلة التي سبقت قيام مملكة إسرائيل. وبغياب مصادر أخرى ، والجنوح نحو توظيف علم الآثار في خدمة الرواية التوراتية ، وبالتالي تغييب القوى الأخرى : الكنعانيين والعمونيين والمؤابيين والمدينيين والأدوميين ، تبقى صورة تاريخ فلسطين لهذه الفترة مشوهة.
وقد غلب على شعوب البحر اسم الفلسطيين مع أنهم كانوا جماعات متعددة ، وتذكر المصادر ائتلافا بين سبع منها ، سبق صدام رعمسيس الثالث بهم في عام حكمه الثامن ، أي نحو سنة ١٢٠٠ ق. م. ففي ذلك العام قام الفرعون بحملة على الساحل السوري ـ الفلسطيني ، وهزم فيها الغزاة. والمصدر الوحيد للمعلومات عن هذه الحملة هو سجل رعمسيس نفسه ، المحفوظ في قبره بمدينة طيبة. ولقد وصل رعمسيس الثالث إلى الحكم بعد موت والده رعمسيس الثاني ، وبعد فترة من عدم الاستقرار الداخلي في مصر حيث دام حكمه ٢٥ عاما. واستطاع في السنوات الأولى من توليه الحكم دحر الغزاة ، أكانوا من الغرب (ليبيا) ، أو من الشمال ـ شعوب البحر.
وحركة شعوب البحر دشّنت عصرا جديدا في تاريخ الشرق الأدنى القديم ، هو عصر الحديد. وإذا كان العامل الموضوعي لتغلغل هؤلاء الغزاة في الجناح الغربي من الهلال الخصيب هو ضعف القوى المحلية ، وعجزها عن صدهم ودحرهم ، كما كانت تفعل سابقا ، فإن العامل الذاتي لذلك الغزو لا يزال مسألة تباينت فيها آراء المؤرخين. وإذ يسود الاقتناع بين الباحثين بأن دوافع هذه الحركة الجامحة تكمن في التطورات التي وقعت في بلاد اليونان وبحر إيجة وغرب الأناضول ، فإن الحوافز المباشرة لهذه الهجرة الواسعة ، لا تزال تثير نقاشا بينهم. ففي غياب المصادر الكافية ، تتضارب