الآراء والنظريات بشأن العوامل المحركة لهذه الاندفاعة الضخمة ، التي غيّرت اللون السياسي للشرق الأدنى القديم كله.
وبينما أدخلت حركة شعوب البحر نهجا جديدا في الصراع السياسي بشأن الهيمنة على المنطقة ، سوف يتكرر لاحقا ، فإن حركة القبائل المحلية ، واستقرارها وبلورة شخصيتها ، وبالتالي التعبير السياسي عن ذلك بممالك جديدة ، ظلت تتبع النمط السابق نفسه المعروف منذ قرون طويلة. فحتى الآن ، كان الصراع يدور بين مركزين رئيسيين ـ العراق ومصر ـ وما بينهما في بلاد الشام ، المتأثرة سلبا وإيجابا بهذا الصراع ، في حين أن نزاعاتهما مع الغزاة من ليبيا في الغرب ، أو مع عناصر هندية ـ أوروبية من الشرق والشمال الشرقي لم تتوقف. أمّا الآن فقد دخل الشمال الغربي ، الأمر الذي شكّل سابقة كان من شأنها أن تتكرر في العصور اللاحقة ، كما حدث في حملة الإسكندر المقدوني ، ولاحقا الاحتلال الروماني ، فما بعده حتى يومنا هذا.
وإذ تتضارب الآراء بشأن حوافز هجرة شعوب البحر ، بين الجوع والجشع والقرصنة ، أو بين الانهيار الاقتصادي والكوارث الطبيعية والضغط الآتي من الشمال ، فإن هناك اتفاقا على أن انحلال «ائتلاف مسينا» ، وما تبعه من سقوط طروادة ، شكلا إيذانا بانفجار هذه الحركة الواسعة. وقد وقع ذلك نحو سنة ١٢٠٠ ق. م. وبفضل الروح القتالية العالية لتلك الشعوب ، وتفوق سلاحها المصنوع من الحديد ، استطاعت تحقيق النصر على جيوش الإمبراطوريتين ـ الحثية والمصرية ـ وأتباعهما ، وخصوصا بعد الضعف الذي اعتراهما جرّاء الصراع الطويل من دون حسم. وفي فترة لا تزيد عن قرن من الزمن ، اتخذ الشرق الأدنى القديم شكلا سياسيا جديدا ، حدد المتنافسون الجدد فيه مسار تاريخه في عصر الحديد.
ففي نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، بدأت حركة شعوب جديدة من منطقة بحر إيجة ، في اتجاه الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وشمال الدلتا في مصر. وهناك من يعزو هذه الحركة إلى الضغط الناتج عن توسع قبائل يونانية من بلاد البلقان جنوبا. وهذا التحرك معروف من أيام الفرعون مرنفتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٦ ق. م. تقريبا) ، الذي واجه تحدّيا مزدوجا ـ من الغرب (ليبيا) ، ومن الشمال (بحر إيجة).
وتفيد المصادر المصرية أن هذا الفرعون تغلب على الغزاة ودحرهم. لكن هذه الموجة كانت الطليعة فقط ، إذ تبعتها موجات أكبر وأعظم ، وكان أثرها على غرب آسيا أشدّ وقعا منها على مصر. وعندما استطاعت القوى المحلية صدّ الغزاة ، اندفعوا في اتجاه آخر ، وبذلك تركوا بصماتهم في جميع أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي.