أردت بما سألتك عنه سوءا ، فقال عيسى : نزلت وما عليها من السماء ، وليس شيء منها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، وهي مما ابتدعه الله بالقدرة البالغة ، فقال كن فكان ، فقال : كلوا مما سألتم واذكروا اسم الله عليه ، واحمدوا إلهكم واشكروه يزدكم ، فإنّه القادر على ما يشاء إذا شاء ، فقال الحواريون : يا روح الله! كن أنت أوّل من يأكل منها ، ثم نأكل منها ، فقال عيسى : معاذ الله ، بل يأكل منها الذي سألها وطلبها.
وفرق الحواريون أن يكون نزولها سخطة ومثلة (١) ، فلم يأكلوا منها ، فدعا (٢) عيسى لها أهل الفاقة والزّمانة من العميان والمجذّمين والمجانين والمخبّلين ، وهذا الضرب من أنواع البلاء من الناس ، فقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، وآية من ربكم فليكن مهناها لكم ، وبلاؤها لغيركم ، فأكلوا فصدر عن تلك السمكة والطعام ألف وثلاثمائة من بين رجل وامرأة شباعا ، يتجشّئون من بين فقير جائع ، وزمن ناقه رغيب.
ثم نظر عيسى إلى السفرة فإذا كهيئتها حين نزلت من السماء [لم ينقص منها شيء](٣) ثم رفعت إلى السماء وهم ينظرون إليها صاعدة ، وينظرون إلى ظلها حتى توارت ، فاستغنى كلّ فقير أكل منها حتى مات ، وبرأ كل مبتلى يومئذ ، فلم يزل صحيحا غنيا حتى مات ، قال : وندم الحواريون وندم سائر الناس ندامة شابت حواجبهم وأشفار أعينهم ، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كلّ مكان يسعون ، يزاحم بعضهم بعضا ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والصغار والكبار ، وكلّ صغير ضعيف ومريض ، يركب بعضهم بعضا ، حتى جعلها عيسى نوائب فيما بينهم ، ثم كانت تنزل غبّا تنزل يوما ولا تنزل يوما ، كناقة ثمود ، ترعى يوما وترد يوما ، فلبثوا بذلك أربعين صباحا ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها فإذا فاء الفيء ارتفعت صاعدة إلى السماء ، ثم أوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي ورزقي لليتامى والزّمنى والفقراء دون الأغنياء ، فتعاظم ذلك عند الأغنياء ، وأذاعوا القبيح ، وارتابوا ، وشكّوا فيها ، ووقعت الفتنة في قلوب المرتابين حتى [قال](٤) قائلهم : يا روح الله وكلمته! إن المائدة بحق أنها تنزل من عند ربنا؟ فقال عيسى : ويلكم هلكتم ، العذاب نازل بكم ، إلّا أن يعفو الله ويرحمكم ، فأوحى الله إلى عيسى : إنّي آخذهم بالشّرط الذي اشترطت ، إنّي معذّب منهم من كفر بعد نزولها
__________________
(١) قسم من اللفظة ذهب من سوء التصوير ، والمثبت «ومثلة» عن تفسير ابن كثير.
(٢) بالأصل : فدعي.
(٣) الزيادة عن تفسير ابن كثير.
(٤) الزيادة لازمة للإيضاح عن المختصر.