ثم إنّ ابن خلدون شيخ فلاسفة التاريخ برصانته وجلالة قدره وزيادة نعيه على المبالغين في الأخبار يقول : ولما استفحل ملك الناصر ، صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني ، وكان جدّه الأمير محمد ، وأبوه عبد الرحمن الأوسط ، وجده الحكم ، قد احتفلوا في ذلك ، وبنوا قصورهم على أكمل الاتقان والضخامة ، وكان فيها المجلس الزاهر والبهور والكامل والمنيف ، فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم ، وسماه دار الروضة ، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل ، واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر ، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ، ثم أخذ في بناء المتنزهات ، فاتخدمنية الناعورة خارج القصور ، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة.
ثم اختطّ مدينة الزهراء (صدق ابن خلدون ، لأنّ الزهراء في الحقيقة كانت مدينة لا قصرا) واتخذها لنزله ، وكرسيا لملكه ، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفا على مبانيهم الأولى ، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء ، متباعدة السياج ، ومسارح للطيور مظلّلة بالشّباك ، واتخذ فيها دور الصناعة لآلات السلاح للحرب ، والحلي للزينة ، وغير ذلك من المهن ، وأمر بعمل الظّلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حرّ الشّمس ا ه.
وأما الزّاهرة فقد بناها المنصور بن أبي عامر الشهير ، الذي يعدّ من أعاظم رجال الإسلام (١) ، جعلها على نهر قرطبة الأعظم ، واحتفل جدا ببنائها ، حتى صارت أشبه بمدينة أيضا.
ومن أحلى ما قرأت من غرام عبد الرحمن الناصر الأموي بالعمران والاتقان والفراهة ، والرفاهة ، واستكمال أدوات الرفق على نسق العصر
__________________
(١) [انظر سيرته في كتاب «منصور الأندلس» للأستاذ علي أدهم من سلسلة أعلام الإسلام].