فتأويل الشرع ـ بعيدا ما بعد عن المفهوم الحالي ـ لا بدّ أن يبقى مربوطا بالعقل البشري ، وآيلا إليه ، وذلك لسبب بسيط ، هو أنّ الشرع والعقل متحدان ، وأنّ حدّهما يصحّ أن يكون مرادفا للآخر ، وأنّه لا يمكن للشرائع أن تأتي بما يستحيل في العقول ، إذ لو كان ذلك لهدمت نفسها بنفسها ، ولعطّلت الأداة الوحيدة التي يمكن فهمها بها.
وقد روي عن سيدنا علي رضياللهعنه ـ وسمعت روايته من أستاذنا الشيخ محمد عبده رحمهالله ـ ما معناه : أنّ الشرائع السماوية لم تأت بشيء جديد ، وإنما جاءت إثارة لدفائن القلوب ، فالعقل مضمون في صلب الشرع ، كما أنّ الشرع مضمون في صلب العقل ، وبناء على هذا المبدأ ، قرّر الإسلام أنّه خاتمة الشرائع ، وأنّه لا بدّ من أن يظهر على الدين كلّه ، كأنّه يقول : إنّ آخر ما يصل إليه الإنسان من الهدى هو دليل العقل ، وهذا الدليل هو الشرع بعينه ، لأنّ كلّ ما ناقض العقل هو مردود ، فلا عجب أن يكون الشرع المعقول هو الشرع الأخير (١).
فما دام العقل الإنساني هو هذا الذي نعرفه ، فالشرع قائم مؤيد ثابت في العقول ، سائغ في الأذهان ، لا يتجافى عنه إلا من حرم سلامة الحس الباطني ، وسلب أداة الإدراك.
وما دام الشرع قائما مؤيدا ، لا تزعزعه عواصف الأهواء ، ولا تميد به زعازع الشبهات ، حتى يعود أمتن مما كان ، ويعتصم به الجمهور ، فمناسك الدين وشعائره لا تبرح قائمة ، وأحكام الشرع لا تبرح جارية ، ومكة تبقى مكة ، وطيبة تبقى طيبة ، والمسجد الأقصى يبقى المسجد الأقصى.
* * *
__________________
(١) هذه العبارة فيها إجمال وغموض ، وهي مروية بالمعنى ، وموضوعها أنّ الإسلام دين الفطرة ، المبني على دلائل العقل ، والمسألة مفصّلة مبيّنة في «رسالة التوحيد» ص (٧) للأستاذ الإمام ، بما لا غموض فيه ولا إبهام. مصححه