لو أفرغوا لها من الوقت ربع ما أفرغوه للحديث والتفسير والفقه والنحو والصرف لكانوا من الصناعة ومن ثمّ من التجارة والثروة ـ على حظ يضاهي حظوظ الأمم الأوربية.
ولكنا قد أهملنا علوم هذه الدنيا ، وحصرنا جميع عنايتنا بعلوم الآخرة (١) ، غير ذاكرين أنّ الإسلام إنما هو شرع دنيا وآخرة ، وأنّ من أهمل أحد الشقين فهو آثم ، كما لو أهمل الشقّ الآخر.
ونعود إلى الدبابات فنقول : إنّ الفرنج قد استعملوها من القديم ، وأهمّ ما روي عنهم فيها ما صنعوه في حصار عكا في الحروب الصليبية ، فقد صنعوا ثلاثة أبراج طول البرج ستون ذراعا ، جاءوا بخشبها من جزائر البحر ، وعملوها طبقات ، وشحنوها بالمقاتلة ، ولبّسوها جلود البقر والطين بالخل ، وقربوها من الأسوار ، وكادوا يأخذون بها البلد ، لأنّ المسلمين رموها بالنيران ، فلم تعمل فيها ، فحاروا في أمرهم ، ودخل عليهم من الخوف ما لا يوصف. قال أبو الفداء : فتحيّل المسلمون ، وأحرقوا البرج الأول ، فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح ، ثم أحرقوا الثاني والثالث ، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة.
وقد روى بهاء الدين ابن شداد في سيرة صلاح الدين يوسف الأيوبي ـ وكان ابن شداد شاهدا تلك الوقائع ، ملازما للسلطان [قال] : إنّ الذي تحيّل لإحراق هذه الأبراج المسيّرة على العجل ، بعد أن أعياهم أمرها كان نحّاسا حمويا ، قال للمسلمين : أنا أكفيكم أمرها ، بشرط أن تهيئوا لي كذا وكذا ، وذكر موادّا أتوا له بها ، فطبخ من هذه المواد ثلاث قدور ، ورمى كلّ دبابة بقدر منها ، فلم تكد تصيبها حتى اشتعلت بمن فيها جميعا ، فكان من فرح المسلمين بصناعة هذا النّحاس الحموي ما لا تفي به عبارة.
__________________
(١) قد ضعفت كلّ هذه العلوم أيضا في جميع الأمصار الإسلامية ، وقلّما يوجد أحد يشتغل بها لأجل الآخرة.