وما زال النّاس مستشعرين الخشوع تلك الليلة ، مواظبين على التلبية ، مترقّبين طلوع الفجر ، الذي يدنيهم من جدة ، ميناء البيت العظيم الذي يؤمونه ، إلى أن انفلق الصبح ، وأخذت تبدو جبال الحجاز للعين المجردة ، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتسّبيح والتكبير ، وازداد ضجيج التلبية للعليّ الكبير ، وخالط الهيبة والخشوع بالقدوم على البيت الحرام الفرح والابتهاج بالوصول إلى أطهر بقعة وأقدس مرام ، ولم تكن ترى إلا عيونا شاخصة ، ولا تحسّ إلا قلوبا راقصة ، والجميع متطلّعون إلى سواحل الحجاز ، منتظرون بذاهب الصبر أن يقبلوا على جدة.
فلمّا كان ضحى اليوم الرابع من ذي الحجة دخلت الباخرة مرسى جدة ، لكن بتؤدة عظيمة ، لما في هذا المرسى من الجبال والصخور ، التي تكاد رؤوسها تبرز من تحت لجج البحر ، وإذا بخمس عشرة باخرة راسيات في ذلك الميناء على أبعاد متفاوتة من البر.
وصف جدة ، وغرابة ألوان بحرها
ولقد طاب لي من ميناء جدة منظران ، لا يزالان إلى الآن منقوشين في لوح خاطري :
أحدهما : رؤية هذه البواخر الواقفة في الميناء ناطقة بلسان حالها : إنّه وإن كانت هذه السواحل قفارا ، لا تستحقّ أن ترفأ إليها البوارج ولا السفن ، فإنّ وراءها من المعنوي أمرا عظيما ، ومقصدا كريما ، هذه البواخر الكثيرة ماثلة أمام جدة من أجله ، ولقد قيل لي في جدة : ماذا رأيت!!؟ فمن العادة أن تجتمع في مياه جدة ثلاثون باخرة وأربعون باخرة ، وقد يبلغ عدد الراسي فيها إلى خمسين باخرة ، حتى يعود البحر هناك غابا أشبى (١) ، وتظن نفسك في هامبورغ أو نيويورك.
__________________
(١) [الملتف].