إدارتها ، فكلما أنّ العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ، ومواقعها ، وحاصلاتها ، وعدد سكانها ، ومقدار جبايتها ، فإنّه يجب أن يعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان ، وطبائعهم ، وعاداتهم ، وميزة كل جماعة منهم ، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية.
ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء ، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء ، أنّ الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية ، والدماء الجارية في العروق ، فقد كان لا بدّ من معرفة الأنساب ، حتى يسعى كلّ فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ، ضمن دائرة الدموية ، بحسب استعدادها الفطري ، لأنّ الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب اللدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسا لاستعداده الفطري ، وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب.
[عناية الأمم بالأنساب]
وليس هذا العلم منحصرا في العرب ـ كما يتوهم بعضهم ، ويظنّون أنّ سائر الأمم قليلة الاحتفال به.
فإنّ الأمة الصينية الكبرى هي أشد الأمم قياما على حفظ الأنساب ، حتى إنّهم ليكتبون أسماء الآباء والجدود في هياكلهم ، فيعرف الإنسان أصوله إلى ألف سنة فأكثر ، وقد تناهوا في الاعتناء بهذا الأمر ، إلى أن قدّسوا آباءهم وجدودهم ، وعبدوهم كما يعبدون آلهتهم.
وكذلك الإفرنج كانت لهم عناية تامة بالأنساب في القرون الوسطى والأخيرة ، وكانت في دولهم دوائر خاصة لأجل تقييدها وضبطها ،