ووصل آخرها بأولها ، وقد بقي ذلك معمولا به إلى أن ساد الحكم الديمقراطي في أوربة ، فضعف عندهم الاعتناء بهذا الأمر بإلغاء الامتيازات التي كان يتمتع بها النبلاء ، وكانوا يدقّقون في الأنساب من أجلها ، وبقي الاهتمام بالأنساب من الجهة العلمية لا العملية.
[عناية العرب بالأنساب]
فأما العرب فلا شك في أنّهم في مقدمة الأمم التي تحفظ أنسابها ، وتتجنّب التخليط بينها ، فلا تجعل الأصيل هجينا ، ولا الهجين أصيلا ، ولا تحتقر قضية الكفاءة في الزواج بينها ، بل تعضّ عليها بالنواجذ. ولا يقيم العربيّ وزنا لشيء بقدر ما يقيم للنسب ، لا سيما في البوادي التي اقتضت طبيعة استقلال بعضها عن بعض ، وتنافسها الدائم فيما بينها ؛ أنّ كل قبيلة فيها تعرف نفسها ، وتحصي أفرادها ، وتحفظ بطونها وأفخاذها ، حتى تكون يدا واحدة في وجه من يعاديها من سائر القبائل.
فاقتضى ذلك أن يكون العرب علماء بأنسابهم ، يحفظون سلاسلهم العائلية بصورة مدهشة ، لا تجدها عند غيرهم ، فتجد البدويّ أحيانا يجهل أقرب الأمور إليه ، ولكنّه إذا سألته عن أبيه وجده ومنتسبه فإنّه يسرد لك عشرين اسما ولا يتتعتع.
وأما في الحواضر ، فليس الأمر بهذه الدرجة من الضبط ، وذلك لعدم الاحتياج الذي عليه البوادي من هذه الجهة ، فإنّ الحواضر مشغولة بصناعاتها ومهنها ومتاجرها ، ومكفولة بالسلطان الذي يغنيها عن تماسك الفصيلة أو القبيلة ، وعن اعتناء كل فريق بجمع أفراده ليقف في وجه عدوه.
وكلّما استبحر العمران في مصر من الأمصار قلّ الاعتناء بالأنساب ، وصار الناس ينسبون إلى حرفهم ومهنهم ، أو إلى البلاد التي جاءوا