والحرجات الملتفة إذا كانت الشّمس في الغالب محجوبة بالغمام؟ والماء البارد إنما يولع به الخلق في بوارح القيظ ، يتبرّدون به بالعلّ والنهل ، والغسل والمجاورة ، فأما إذا كان الهواء باردا من أصله ، فما لك وللتبرد والابتراد؟!
إنّ الإنسان بني مزاجه على التعديل ، فتجده لا يعرف الراحة والهناء إلا بتسليط العناصر بعضها على بعض ، حتى تصل إلى درجة الاعتدال ، فإذا أفرط به الحرّ لجأ إلى الماء والثلج وأهوية الجبال ، وإذا أفرط به البرد لجأ إلى النار والشمس والصوف وأهوية السواحل.
فما دام الإنسان لا يشعر بالحرارة ، فالبهجة التي عنده للماء الزّلال والظل ، والمرج الأخضر ، والشجر الملتفّ ـ لا تكاد تذكر بالقياس إلى البهجة التي عنده بها والسّموم تهبّ ، والجوف يتلهب.
فالجنات والعيون ، والأنهار ، والأشجار ، إنما جعلها الله نعيما في البلاد الحارة والمعتدلة ، كجزيرة العرب ، ومصر ، والمغرب ، والشام ، والعراق ، وفارس ، وما في ضربها ، ففي هذه الأقاليم تظهر قيمتها ، ويغالي المرء في ثمنها ، ويلحق بهذا الضرب من البلدان إيطالية وإسبانية والجزائر التي في البحر المتوسط ، وجميع جنوبيّ أوربة.
ولقد وجدت مرة في رومية (١) في فصل القيظ ، ففررت منها إلى بلدة تيفولي ، على مسافة ساعتين من رومية في سفح الجبل ، ونعمت من النهر العذب الفياض المنحدر من هناك ، وبشلالات ذلك النهر ، وبحيراته وحياضه ، بما لا أنساه طول حياتي ، وإنما كانت درجة الحرارة البالغة (٣٤) هي التي توحي إليّ بتلك المحاسن التي رأيتها على نهر تيفولي ، وتنطقني بهذه الفقر الشاعرة في وصفها.
* * *
__________________
(١) [رومة عاصمة إيطالية].