الفرنسيس والهلانديون وغيرهم من الدول الأوروباوية ، فإن لكل من هاته الدول مستعمرات في هاته القارة في شطوط الهند وفي شرقيه وجزره ، وتجري فيهم أحكام الدول المتغلبين لكنها ليست كأحكام ممالكهم وإنما هي أحكام إستبدادية عسكرية بمراعاة العوائد للأهالي ، ولما كانت هاته المستعمرات لا تبلغ إلى مستعمرات الإنكليز لم نذكرها على حدتها مثل ما ذكرنا الهند الإنكليزية ، ولله ميراث السموات والأرض.
القسم الثاني من الأرض
هو قارة أوروبا ، هاته القارة يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا الجهة الشرقية فتتصل بقارة آسيا المار ذكرها ، والحدّ بينهما هو جبال أرال ونهر دون الذي مصبه في البحر الأسود ، ثم يحدّها جنوبا البحر الأسود وبحر مرمرا والبحر الأبيض وبغاز طارق ، وغربا المحيط الغربي والمانش ، وشمالا المحيط الشمالي والمنش والبلتيك والمتجمد القطبي ، وهاته القارة الآن رمقها السعد بألحاظه وحط لديها ركابه فكما تسعد أفراد الإنسان وتنحس كذلك بقاع الأرض حاشا البقاع المكرّمة بالأنوار الإلهية ، وإنما نعني البخت الدنيوي. فإن هاته القارة كانت قد لبثت مدّة وهي في الحضيض الأسفل ما بين خلاء وخراب ودثار وتوحش فيما سلف من العصور ، إلى أن حدثت فيها دولة الرومان واليونان وتشعشعت فيها المعارف وارتقى فيها التمدّن والصنائع ، لكنها لم تلبث أن عادت كما كانت عليه من التوحش والبربرية لاقتصار تلك المبادىء الحسنة على أفراد وإن كانوا كثيرين في مراكز مخصوصة ، وانحصار السلطة القهرية في تلك المراكز فزال التقدم بتقهقر تلك السلطة ، غير أنها حدث فيها تمدن آخر في مدّة الإمبراطور شارلمان (١) المعاصر للخليفة هارون الرشيد الذي أكب على المعارف وملازمة أهلها ، وبث منها في ممالكه ما وسعه الإمكان ، غير أنها تقهقرت بعده أيضا وشرع فيها تمدّن منذ خمسمائة سنة على خلاف المعهود سابقا ، وامتد فيها تدريجا إلى أن بلغت في هذا العصر إلى الدرجة القصوى من التهذيب والتمدّن والمعارف الدنيوية ، حتى صار لأهلها الوجاهة والنفوذ على جميع أقسام الأرض ودونك أنموذجا لأخبار ذلك الترقي ، وحاصله :
إن أهالي أوروبا استفادوا من العلوم التي باللسان اللاتيني واليوناني اللذين تحفظت عليهما الكنيسة ، وكان أهلها في مدّة الجهل العام يبذلون أقصى الجهد في التحفظ على تعلم ذينك اللسانين وترقي تلامذتهم في العلوم الموروثة من الرومان واليونان ، كما استفادوا من الأمّة العربية في المغرب بمجاورتها في الأندلس ، فأخذوا عنها العلوم الرياضية وتهذيب الأخلاق والجغرافيا التي علمتها المسلمون بالأسفار للحج من الأقطار القاصية والفتوحات
__________________
(١) هو شارل الأول الكبير (٧٤٢ ـ ٨١٤) ملك الإفرنج وإمبراطور الغرب ، مؤسس السلالة الكارولية ، جعل أكس لا شابل (آخن) عاصمة له ، حاول الإستيلاء على اسبانيا ففشل في سرقسطة سنة (٧٧٨) المنجد (٣٨١).