بعد انبرام الصلح صدر له إذن الوالي بأن يخالط من شاء ويذهب أين شاء داخل القطر وخارجه والعود إليه متى شاء هو وأبناؤه إلا زوجه وزوج إبنه الأكبر لكونهما من عائلة الوالي ، ولم تكن عادتهم تسمح بخروج أحد عائلتهم خارج القطر ، ولم يستثن عليه إلا الإجتماع بالوالي وكان يظن ذلك بسعي الوزير خير الدين المتولى بعده ، لكنه كشف الحال أنه من ذات الوالي لأنه دام على الامتناع من مواجهته حتى بعد انفصال الوزير خير الدين عن الوزارة ، وبقي الوزير المذكور على حالة إنفراده في قصره بالحاضرة يتردد عليه قليل من أتباعه والأجانب إلى أن توفي سنة ١٢٩٥ ه رحمهالله.
المطلب السادس : في وزارة الوزير خير الدين (١)
هذا الوزير أصله من أبناء الجراكسة القاطنين في جبال القوقاز ، ونشأ بالقسطنطينية ثم شب في تونس بقصر الوالي أحمد باشا ، واستكمل القراءة والكتابة والتجويد والفروض العينية ، ولحدة ذهنه أقبل بها على تحصيل الفنون العسكرية والسياسية والتاريخ ، ومشاركة في الفنون الشرعية حصلها بمثافنة أهلها ومطالعة الكتب ، وتعلم اللسان الفرنساوي فكان فصيحا في العربية عارفا بالتركية والفرنساوية ، شديد التوقير للشريعة والعلماء محافظا على شعائر الدين عالي الهمة وقورا حتى يخاله من لم يخالطه متكبرا ، فإذا ثافنه رآه حسن القبول عفيفا عن الرشا راسخ الطبع ثابت الفكر لا يتزلزل عن رأيه ، حازما في العمل ترقى في الخطط العسكرية في مدة أحمد باشا مع استنجابه إليه ، وقربه الوزير مصطفى خزنه دار حتى صاهره على ابنته ، ثم ولاه أحمد باشا أميرا للواء الخيالة سنة ١٢٦٦ ه.
ولما وقعت حرب القريم أرسله أحمد باشا المذكور إلى باريس ليبيع مجوهرات للحكومة يستعين بثمنها في مصاريف العسكر المرسل لإعانة الدولة العثمانية ، وناضل هناك على التعرض في إرسال العسكر بما تقدم شرحه ولم يبع المجوهرات إلا بعد عرضه لأثمانها على الوالي أحمد باشا ، مع أنه فوض إليه وأنكر عليه التأخير بسبب الإستشارة وكتب له تفويضا تاما ، كما كلفه في تلك الوجهة بعقد قرض مع إحدى ديار المال فباع المجوهرات وأرسل ثمنها وحاسب عليه وقدره نحو مليونين فرنكا ، وأخذ حجة تامة من محمد باشا في الحساب وبراءة ذمته وماطل في العقد للقرض وكيفية شروطه لما يراه من المضرة على القطر وراجع الوالي مرارا إلى أن توفي الوالي المذكور ووافقه خلفه محمد باشا على عدم القرض ، وقد رأيت بخط كاتب أسرار الولاة الوزير أحمد بن أبي الضياف في هذا الغرض ما نصه :
«وشكر أي محمد باشا خير الدين في عدم الإستعجال وأنقذ بها البلاد من هاوية
__________________
(١) هو خير الدين باشا التونسي (١٢٢٥ ـ ١٣٠٨ ه). وزير مؤرخ شركسي الأصل. تقلد مناصب عالية آخرها الوزارة. توفي في الأستانة. الأعلام ٢ / ٣٢٧ ، إيضاح المكنون ١ / ١١٤. معجم المطبوعات (٨٥٤) ومعجم المؤلفين ٤ / ١٣٣.