المقدمة
الباب الأول
في السفر من حيث هو
الفصل الأول
فيما جاء في ذلك من الكتاب العزيز
إعلم أن الله تعالى قد أمر في كتابه العزيز بالسير في الأرض للإعتبار والإستدلال على وجوده ووحدانيته ، فقال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) في آيات من الكتاب المجيد في [الأنعام : ١١ ـ والنمل ٦٩ ـ والعنكبوت ٢٠ ـ والروم ٤٢] ، وفي بعضها قال : (ثُمَّ انْظُرُوا) [الأنعام : ١١] وفي أخر قال : (فَانْظُروا) [النمل : ٦٩ ـ العنكبوت ٢٠ ـ والروم ٤٢]. فكان العطف تارة بالفاء وتارة بثم إشارة إلى أن النظر والإعتبار كما يلزم في حالة السير يلزم بعده حتى لا يكون الزمن والعمل خاليا عن فائدة صحيحة في نظر الشرع فأوّلا : يحصل النظر الإجمالي في حالة السير ثم يحصل النظر التفصيلي بالاعتبار عند الإنفصال منه حتى يستقرّ في النفس بغاية التروّي. ولا يخفى أن القاعدة الأصولية عندنا هي أن الأمر للوجوب ، وهو حقيقته ولا يصرف إلى غيره إلا عند القرينة الصارفة ، وقد اشتملت الآيات المذكورة على أمرين وهما : الأمر بالسير والأمر بالنظر. فكلاهما واجب غير أن الأول واجب لكونه وسيلة للثاني ، والثاني : واجب مقصود لذاته وإفادة ترتبه على سابقه تحصل بكل من الفاء وثم بيد أنه تحصل بكل واحدة فائدة خاصة ، فالفاء تفيد ترتب النظر على السير بغير مهملة ، وثم تفيد ترتبه عليه بعده حتى يكمل رسوخه ، وبهذا تبين الوجه في العطف بهما ولا نحتاج إلى أن الإتيان بثم لإفادة التفاوت بين مراتب الواجبين ، حيث أن أحدهما مقصود لذاته والآخر مقصود لكونه وسيلة كما ذهب إليه أبو السعود (١) والقونوي (٢) لأنّ هذا لا يكون فائدة يستدعيها المقام بخلاف ما ذكرناه.
__________________
(١) هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي المولى أبو السعود (٨٩٨ ـ ٩٨٢ ه) مفسر من علماء الترك المستعربين. الأعلام ٧ / ٥٩ شذرات الذهب ٨ / ٣٩٨.
(٢) القونوي : لقب لجماعة من فقهاء الحنفية : انظر الأعلام ٧ / ٣٠ و ١٥٣ و ١٦٢.