كان الأمر مستندا للطبيعة لجاءت الخلق على هيئة واحدة في جميع ما تقدّم ، مع أنا نرى الإختلاف والتباين تارة مع قرب المناخ وتارة مع بعده ، مع أن الأرض واحدة وعناصرها واحدة وأصل البشر واحد ومزيد البسط لهذا في كتب الكلام.
ومنها : ما دل عليه قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١] فأمر تعالى بالإعتبار بما خلق من الأجرام العلوية وكيفية وضعها وحركاتها ، كما أمر تعالى بالإعتبار بما خلق في الأرض من الجماد والنبات والحيوان ، وفي هاته الآية أجمل المنظور فيه وقد فصله في آيات كثيرة من كتابه العزيز للإستدلال على وجوده ووحدانيته ، فقال في سورة [الرعد ٢]. (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). فذكر أن الأجرام العظيمة الهائلة قد بقي كل منها في مركز مخصوص من الجو وله حيّز يمتاز به عن غيره من غير اضطراب ولا تلاطم وليس لكل منها ما يعتمد عليه من الأجرام المرئية مع أن أجرامها هي في نفسها مرئية على خلاف المعهود فلا بد أن يكون جميع ذلك لموجب أوجبه ، فإن قيل : إن موجبه هو وجود أعيانها وذواتها فهذا مردود لوجهين :
الأوّل : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيّز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحيّز.
والثاني : أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير المتناهية وهي بأسرها متساوية ، ولو وجب حصول جسم معين في حيّز لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز متساوية ، فثبت بهذا أن وجود الأجرام الفلكية في أحيازها ليس هو لذاتها ، وإنما هو لمدبر حكيم قادر خص كلا منها بما شاء.
ثم إنّ كمال الإعتبار بترتيب تلك الأجرام العلوية وكيفية أوضاعها وأشكالها إنما يتم على أكمل وجه بالسير في الأرض ، فما يرى منها في جهة القطبين لا يرى من المناطق المعتدلة ، وكذلك ما يرى في أحد نصفي الكرة لا يرى من النصف الآخر.
ثم قال تعالى عقب الآية السابقة : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد : ٣] قال المفسرون : إنه تعالى لما قرّر الدلائل العلوية أردفها بالدلائل الأرضية بالاعتبار بذات الأرض وما احتوت عليه من عجائب قدرة الخالق الحكيم القاضية بوجوب وجود صانعها ، فإن حكماء المتأخرين الذين وصلوا بالمعارف والتحاليل والآلات إلى ما لم تبلغه فلاسفة الأقدمين حتى زيفوا لهم كثيرا من خرافاتهم وبينوا خطأهم ، فهؤلاء حذاقهم قد أقرّوا بأنه لا بد من خالق لما هو موجود إذ ما يعللون به كثيرا من الأشياء من قولهم الجاذبية والنواميس والطبيعية وغير ذلك ، قد صرحوا بأنها عبارات إصطلاحية وإلا فحقائقها أمور مجهولة تلتزم متتبعها بالإعتراف بالصانع فمن هؤلاء الحكيم المتبحر «فيلكس