إلى أن تكون الأنهر بسبب الجبال إما من الثلوج المذابة منها أو من منابع العيون المتفجرة فيها ، وكأن سبب كثرة هاته المنابع في الجبال هو أن الجبال من أسباب جذب الأبخرة والأمطار وعلى قدر تشرب سطح الأرض للمياه يكثر في باطنها اجتماعها ، ففي الأراضي البسيطة تتصاعد تلك المياه أبخرة لسهولة نفوذ البخار في أجسام الأرض المتخلخلة بخلاف الأراضي ذوات الجبال فإنها بصلابتها تمنع نفوذ الماء بخارا كما تحميه من تأثير حرارة الشمس ، فلا يزال الماء يجتمع في طبقات الجبال إلى أن يتكون منه مقدار عظيم فينفذ بقوة لأنه أعلى مما حوله من الأرض فتتكون منه الينابيع والعيون وتسيل جداولا ونهيرات ، فإذا اجتمعت في حوض تكون منها نهر ويعظم ويصغر بحسب ما يلتقي فيه من الأنهر والينابيع.
ورابع الجهات المشار إليها في الآية : الإعتبار بما في الأرض من الثمرات وأنها كلها مثل الحيوان ذكر وأنثى ، وهذا التفسير البين المحمولة فيه الآية على حقيقة اللفظ من قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣]. إنما اطلعنا عليه من ترقي العلوم الطبيعية والفلاحية ، فقد تبين بالتجربة والمشاهدة وقرّره جميع فلاسفة المتأخرين في كتبهم أن جميع أنواع الثمرات بل حتى الزهور أيضا تشتمل على ذكر وأنثى وإذا أفرد أحدهما عن الآخر لا تتولد الثمرة ، غير أن بعض الأنواع تكون فيه الشجرة الواحدة مشتملة على البزر الذكر وعلى البزر الأنثى وتتلاقح مع بعضها بالريح وهو المشار إليه بقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وبعض الأنواع تكون فيه شجرة الذكر مفردة عن شجرة الأنثى وهذا النوع الأخير كان معلوما منه سابقا بعض أفراد كالنخل والتين ، لكن الآن قد تحقق أن جميع الأنواع لا تثمر إلا بالتلاقح بين الذكر والأنثى حتى إذا تتبع قطع أحد الصنفين من شجرة تشملهما وأبقى نور الآخر بحاله ولم يكن في ذلك الموضع شجرة أخرى مثلها فإن ما بقي فيها من النور لا يثمر ، وقد حرر ذلك وعلمت علامات الذكر وعلامات الأنثى في كل نوع بحسبه فسبحان القادر الحكيم الذي أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم حقا وصدقا بأوضح المعجزات ، فقد أنبأ بهذا منذ أكثر من ثلاث عشرة مائة سنة عندما لم يكن هناك حكيم يختلج هذا بفكره فضلا عن الأمّة الأميّة وهو أحدها لا يقرأ ولا يكتب ، فلا شك أن هذا إنما هو بوحي من الخالق الذي يعلم ما خلق سبحانه وتعالى ، ولدقة هذا الأمر وغرابته قد اعترف منصفوا أهل هذا العصر بأن الحكمة قد فازت بها الأمة العربية منذ بعث فيها رسولها واستندوا لما اشتمل عليه القرآن من بديع الحكم ، فإن معرفة كون الريح تلقح الأشجار لم تعلم عند الحكماء إلا في آخر هذا القرن ، والقرآن الكريم ناطق بها ولهذا قال مستر اجنيري (حرف ج ينطق به بين التاء والشين) الإنكليزي معلم اللغة العربية في مدرسة عامّة الفنون في بلد أكس فور الكائنة جنوبي لندرة : «إن أصحاب الإبل قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أوروبا بثلاثة عشر قرنا». أقول وكذلك كون الثمار تشتمل على الزوجين وما ذلك إلا بتعليم الخالق لا بواسطات ولا تعلمات ولا تجربات وتحليلات كيمياوية وبذلك يعلم حقية قول من قال إن القرآن لم يفسر