لما استفحل فيها العلم ، وكان ذلك المذهب هو المشتهر ممن أخذوا عنه العلوم الرياضية ثم أحيي المذهب الأوّل ، وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن وأنكره المنتسبون للعلم من المسلمين ظنا منهم أن المذهب الآخر هو من عقائد الإسلام ، أو أن المذهب الآخر مصادم للنصوص ، والحق أن ليس شيء من هذا ولا من ذلك هو مما يجب اعتقاده عندنا وإنما المدار عندنا على الإعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار وأشباه ذلك وإثبات جريان للشمس ، وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد وسير الشمس ثابت على كلا المذهبين لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها وحركة ثانية على منطقة لها أيضا ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من الكواكب حول شيء مجهول ، كما أن هاته الدورة مجهولة المستقرّ أيضا وكأنها هي المشار إليها بقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٨]. وذلك أن المستقرّ أوتي بلفظه منكرا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق ولهذا أوتي به مضافا إلى الشمس باللام فكان منكرا ولم يقل مستقرّها بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقرّ غير معروف ، وعلماء هذا الفنّ الآن من غير المسلمين مقرّون بذلك فهو حينئذ إجماعي بيننا وبينهم. ثم أن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ، ربما كانت آيات عزيزة تشير إليه فمنها : الآية المتقدّمة.
فإنه تعالى بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء ، ذكر الدلائل الأرضية وخرط فيها الليل والنهار ، فيشير ذلك إلى أنهما من آثار الأرض لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معا لكن تخصيصه بالإنخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاص ، وهو كون دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا حيث قال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الرعد : ٣]. فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي هو ضوء الشمس ففيه تلميحة إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.
ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضا قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ١ ـ ٤]. فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليا لها والليل الذي هو الظلمة الأصلية للأرض مغشيا لها ، فأسند فاعلية ذلك لغير الشمس بل لفاعل آخر وهو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض ، وإذا كان هذا ثابتا فما يدل على الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان.
ثم اعلم أنه لا يلزم من دوران الأرض نفي السماء على ما يتوهمه غير العارف لأن السموات لا شك في وجودها للنصوص القطعية عليها ، غير أن جرمها غير معلوم لنا وإنما نعتقد أنها أجرام شداد هي بالنسبة لكل من على الأرض فوقه كما هو المفهوم اللغوي للفظ سماء (١) وأمّا ماهية أجرامها فالله أعلم بها ، ونعتقد أنها سبع طبقات شداد ثم طبقة أخرى
__________________
(١) سما : السمو الإرتفاع والعلو. تقول منه : سموت وسميت مثل علوت وعليت وسلوت وسليت. وسما ـ