تسمى بالكرسي ثم طبقة أخرى تسمى بالعرش ولا يلزم من كونها شدادا أن لا تخترقها الكواكب بسيرها ، فإن ذلك مشاهد لنا كما أنه لا يلزم من سير الكواكب انعدامها حتى يقولون إن الكواكب ملقاة في الفضاء ، لأن ذلك متوقف على معرفة كنهها وهو فوق عقولنا ، لأن العقول إنما تتوصل إلى المعهودات للحواس وما لا تعهده الحواس يعسر إدراكه على حقيقته ، ولهذا كان علينا أن نصدّق الصادق ونكل معرفة ذلك إلى خالقها ، فقد قال سيدنا عبد الله بن عباس (١) رضياللهعنه عند قراءته لقوله تعالى : (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ١٥ و ١٦] ما معناه : أن القوارير الزجاج الذي لا يحجب ما وراءه ، والفضة إذا طرّقت ما عساها أن تطرّق لا تكون إلا كثيفة ، فهاته الفضة هي نوع آخر لا نعلمه ونكل علمه إلى الله ، بل الأغرب أن مثل هاته المسائل أقرّ بها الحكماء الذين لا يعتقدون الشرع ، فقد قال أحد حكماء الفرنساويين المتأخرين ما ترجمته : «إن للعقل حدّا محدودا لا يتجاوزه ، كما أن للبصر حدا محدودا لا يتجاوزه ، فإتعاب العقل في التوصل إلى معرفة كنه الأجرام العلوية وما هيئتها ، كإتعاب البصر في أن يرى ما فوق السقف من أسفله ، فهب أنك أعنته بأعظم المرايا المكبرة فإنه لا يمكن أن يخترق السقف حتى يرى ما فوقه» اه.
ويمكن لنا أن نقرب لاؤلئك المنكرين للسماء فهم وجودها على مقتضى علم الهيئة الذي هم عليه الآن ، بأنهم يسلمون وجود كرة الهواء محيطة بالأرض وأنها عظيمة شديدة حتى قرّروا أن ذات الإنسان المتوسط مضغوطة وحاملة لأكثر من ثلاثة وثلاثين ألف رطل من الهواء ، ومع ذلك فإن هاته الكرة العظيمة الشديدة تخترق كيفما أراد المخترق لها فلم لا يجوز أن تخترق الكواكب السيارة السموات على هذا النحو ، ثم أن هاته الكرة الهوائية نهاية ارتفاع سطحها الأعلا عن سطح الأرض نحو ستة عشر فرسخا ، وهي في ذاتها تختلف طبقاتها وما فوقها ليس بخلو ، لأنه لا يوجد في الكون خلو مطلق كما هو رأي قدماء الفلاسفة ومتأخريهم ، كما قرّره الحكيم لا مروس في كتابه السابق ذكره فلم لا يجوز أن يسمى الشيء المعمر لحدّ محدود من الفضاء بالسماء وما فوقه من حدّ آخر بسماء آخر وهكذا ، وإن كنا نجهل حقائقها لكنا نقول أنها لا تمنع من سير الكواكب في مناطقها ، ومن ذلك الأرض فالأرض التي يقع بها الإعتبار بالأوجه المتقدّمة لا يكمل مزيد الإعتبار بما فيها من اختلاف أقطارها حرّا وبردا وثمارا وأنهارا وجبالا وسكانا إلا بالسفر ومشاهدة عجائب خلق الله فيها.
الفصل الثاني
فيما ورد في السفر من السنة : روى السيوطي في الجامع الصغير عن ابن السني وأبي
__________________
ـ الشيء يسمو سموا فهو سام : ارتفع وسما به. وأسماه : أعلاه. ويقال للحسيب والشريف : قد سما. وإذا رفعت بصرك إلى الشيء قلت : سما إليه بصري. أنظر لسان العرب ٦ / ٣٧٨ مادة (سما).
(١) هو عبد الله بن عباس حبر الأمة أبو العباس (٣ ق ه ٦٨ ه). صحابي جليل توفي في الطائف.
الأعلام ٤ / ٩٥ نكت الهميان (١٨٠) حلية الأولياء ١ / ٣١٤ رقم الترجمة (٤٥).