لكن حكمة الله تداركت هذا الملم باللطف فجعلت الرئة تجذب الهواء الذي هو مركب في حالة سلامته الأصلية من الآزوت وهو أكثر أجزائه ، ولا يضرّ ولا ينفع الحيوان ذا الدم إذا كان مخلوطا مع بقية الأجزاء ومن الأكسوجين الذي هو الجزء النافع للحيوان ذي الدم ، وأقل منه كمية الحامض الفحمي الضار للحيوان المذكور ، ومن شيء يسير من الماء حالة كونه بخارا فإذا دخل الهواء الرئة استرجع الدم منه الأكسوجين الذي فقده ودفع فيه ما عنده من الحامض الفحمي المضرّ ثم أخرجته الرئة بالتنفس وأخذت هواءا آخر لما ورد إليها من الدم أيضا وهكذا في كل لحظة ، وعندما يصفو الدم في الرئة برجوعه إلى اعتداله ينبعث منها في عرق عظيم ويرجع إلى القلب من الجهة اليسرى على نحو ما قدّمناه وهكذا ، فسبحان القادر الحكيم اللطيف.
وبهذا البيان ظهر وجه احتياج الإنسان للهواء أكثر من الغذاء وإذا علم ذلك علم وجه كون السفر مثمرا للصحة لأن الهواء في الأماكن المسكونة يكثر فيه الجزء الحامض الفحمي المدفوع بتنفس السكان بخلاف الأماكن الغير المسكونة فإن هواءها يكون أصفى وأنقى من غيرها ، والمسافر لا بد له من قطع مفاوز وبحارا فيستنشق ذلك الهواء الحسن فيصفى دمه ويصح بسببه بدنه كما قال عليه الصلاة والسلام وبما قررناه في التنفس والهواء يعلم وجه كراهة النفخ على الماء والطعام شرعا ، لأن الهواء المنفوخ به يكون حاملا لجزء كثير من الحامض الفحمي الذي هو مضر بالصحة.
واعلم أن ما قرّرناه في حسن الهواء وسلامته للمسافر هو بالنظر إلى الغالب الكثير فلا يعترض عليه بأن هناك أماكن خالية عن السكان ومع ذلك هي وخمة لما يعرض لها من تعفن أو غيره فلا يكون هواؤها سليما لأن ذلك قليل والحكم على الغالب ، وهكذا القول في الغنيمة أي الربح المالي إذ شأن المسافر الإطلاع على أحوال التجارة والسعي فيها فيربح إذا سعى لها ولا يعترض بكون المسافر لا يربح إذا سافر لمقصد سياسي أو تنزهي أو بدنّي أو غير ذلك ، إذ مدار حصول الشيء على السعي في أسبابه.
الفصل الثالث
فيما ورد في السفر من كلام الحكماء والأدباء : اعلم أنه قد ورد في مدح السفر كثير من كلام البلغاء والحكماء فلا نطيل بجلبه هنا ونقتصر على كلام الإمام الشافعي رضياللهعنه حيث قال :
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا |
|
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد |
تفرّج هم واكتساب معيشة |
|
وعلم وأداب وصحبة ماجد |
فقد جمع من فوائد السفر ما تتشوّق النفوس إلى اكتسابه.