قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف : ٨٥ ـ ٩٨].
فذكر أن ذا القرنين اتخذ أوّلا طريقا إلى أن بلغ منتهى الأرض من جهة الغرب فوجد الشمس هناك تغرب في ماء أسود كأنما هو بالحمئة أي الطينة السوداء وهو والله أعلم البحر المحيط الغربي لشدة عمقه يتراءى أنه أسود وسمي عينا نظرا إلى سياق عظمة قدرة الخالق وما اطلع عليه ذو القرنين الذي البحر المذكور بالنسبة إليه ما هو إلا كالعين إلى آخر الآية ثم ذكر أتباعه لطريق آخر وصل به إلى منتهى مطلع الشمس من الأرض وقص ما وقع هناك أيضا ، ثم ذكر أتباعه لطريق آخر ، فظاهر السياق أنه لغير المشرق ولغير المغرب فهو حينئذ إلى أحد القطبين وهو الذي ذكر فيه قصة يأجوج ومأجوج ، وعلى ذلك فذو القرنين سافر إلى أقاصي ثلاث جهات من الأرض والله أعلم ، أيّ القطبين الذي هو الجهة الثالثة.
ويؤيد هذا الفهم المأخوذ من السياق ما روي من «أن سيدنا الخضر كان وزيرا لذي القرنين وأنه اجتاز معه أرض الظلمة حتى وجد بها عين الحياة» الخ. وأرض الظلمة لا تكون إلا في أحد القطبين أو ما قاربه لأنه هو الذي يطول مغيب الشمس عنه كما هو معروف عند الحكماء والفقهاء ، وبنى عليه هؤلاء أحكاما في الصوم والصلاة مقرّرة في دواوين الفقه ، وليست هي أرضا غير المعروفة وإنما أتتها الظلمة مما أشرنا إليه ، ثم أن قارات الأرض إن كانت إذ ذاك على حالتها الآن ربما تقتضي أن القطب الذي وصل إليه هو الشمالي ، هذا إذا كانت هيئة الأرض إذ ذاك هي على نحو ما عليه الآن ، أما إذا كانت على شكل آخر فيمكن أن يكون القطب هو الجنوبي أيضا ، وإنما قلنا هذا لأن الأرض تتغير أشكالها على طول الزمان بما يحدث فيها من الزلازل العظيمة وانخفاض جهات من اليابسة وارتفاعات في جهات من البحر.
وهكذا فإن أمريكا على ما سيأتي كانت متصلة بقارة آسيا من جهة بوغاز برن بل أن جهة من مملكة تونس الشرقية تسمى برج بو الشاطر في عمل بن زرت كانت قديما مرسى السفن في دولة القرطاجنيين والآن صارت محترثات خصبة ، والبحر يبعد عنها نحو خمسين ميلا ، وكذلك في الجهة الجنوبية جنوبي الجريد كان فيها بحر يدخل إلى دواخل القارة الأفريقية والآن صار صحراء وهي المسماة بالصحراء الكبيرة. وسيأتي بقية الكلام عليه في الكلام على تونس. وكذلك خليج السويس كان بحرا موصلا بين البحر الأبيض والبحر الأحمر ثم سد ثم فتح الآن على ما سيأتي الكلام عليه أيضا في محله إن شاء الله تعالى.
فقد قال المفسرون في قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر عند قوله تعالى : (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [الكهف : ٦٠]. «إن المراد بمجمع البحرين هو محل إتصال بحر الروم