تحتك في أسفل سافلين وهكذا مناظر بديعة مختلفة تتوالى كل لحظة ثلاث ساعات في الجبال وعلى الإجمال أن السفر في جبال أوروبا المتمدنة ذات العمران ليس له من لذة عندي توازيه سيما مع الركوب في الرتل في الطبقة الأولى في مخدع منفرد للشخص وأصحابه ، وعلى الخصوص إذا كان معه صديق يساجله في سائر المقاصد فإن ذلك من نعم الدنيا الكبرى ، ومن هناك حجبت عنا الشمس بكثرة الأبخرة المتصاعدة من الجبال والثلوج ثم نزلنا إلى الوهاد بعد أن جزنا في الجبال صعودا ونزولا خمسة وأربعين نفقا ، فمنها : ما يسير فيه الرتل عشرة دقائق ، ومنها : ما يسير فيه دقيقتين. وكل نفق مظلم ويشتد ظلامه ويخف حسب طوله.
وبعد أن سرنا في الوهاد نحو ساعة وتكاثر نزول الثلج وصلنا إلى بلد بولونيا وهي بلدة ضخمة لكن أبنيتها وطرقها ليست بجميلة سيما القديم منها وأغلبها على ذلك النحو ، نعم بها منتزهات نزهة ، وأغلب الطرق يحفها يمينا وشمالا رواقات لشدة حرها صيفا وشدة بردها وكثرة ثلجها شتاء فتتقي المارة بتلك الرواقات ، وفيها موقف للرتل عظيم جدا لأنها مناخ للتجارة لتوسطها بين بقية ممالك إيطاليا وسفيسرة وفرنسا والنمسا وألمانيا ، فترد إليها الأرتال من الجميع ، ونزلنا في الموقف وتغدينا في محل الأكل هناك وكان وقوف الرتل نصف ساعة ، ثم سرنا إلى تورين في ذلك المنظر البهيج المنبسط على الوهاد لكثرة إتقان الزراعة وإثارة الأرض وتعميرها وكثرة الأبنية في الأراضي الزراعية كل ذي أرض له فيها بناء مع تحسين شكله وتزيين ظاهره ، ومع ذلك منظر الجمال في الجبال أبهج ، وعند ما أراد الليل أن يسدل حجابه تبدى وجه الغزالة محمرا من برقع السحاب على وجه الأفق فيا له من منظر بديع يشهد للباري تعالى بحسن الصنيع ، وما ودعنا نور الشمس إلا بعد ما استخلف ضياء البدر المنير إذ كان ذلك أواسط شهر ذي القعدة فتفضض الأفق والنواحي ببريق البدر ، وكان جمال الليل مزهرا في تلك المناظر الجميلة مستمرا إلى أن وصلنا إلى موقف الرتل بتورين بعد نصف الليل ، فإذا بذلك الموقف أبهى وأبهج وأضخم من جميع ما رأيناه سابقا. واستمر سير الرتل من مبادىء متعلقات الموقف إلى أن استقر فيه أزيد من عشرة دقائق فكنت ترى فيها المزجيات والمركبات منبثة في جميع الجهات مائسة لأركانها والرتل وارد وصادر من كل أوب ، ومحل نزول الركاب هو ساحة عظيمة مرفوع سقفها على أعمدة من الحديد المستطيلة من قضبان من الحديد مرصف فيها الزجاج والفوانيس موقودة بالغاز تضيء كالنهار ، فاسترحنا في بيت الجلوس إلى أن نزل رحلنا في الكمرك وفعلوا في تفتيشه ما فعل في البلدان السابقة ، ثم ركبنا أحد الكراريس الكبيرة المعدة لنقل الركاب إلى منازل المسافرين لأن كل منزل كبير له كراريس كبيرة تسع الواحدة ثمانية من الركاب فما فوق تحملهم من المواقف إلى المنزل والعكس ، وذهبنا إلى المنزل فلم نجده لائقا فانتقلت إلى منزل آخر حسن وأقمت بهاته البلدة يومين وهي مصر عظيمة ذات إتقان في الأبنية والمساكن والطرق.
ومن خصائصها أن طرقها تكاد أن تكون كلها متقابلة تتقاطع على التربيع بزوايا