لواحد إلا همسا لكي لا يشوشوا على بعضهم ، فمن مطالع ومن مقابل ومن ناسخ ومن مفكر والكتاب بين يديه ، فعلمت أن أهالي هاته البلدة معارفهم أوسع ، وسوقها لديهم أروج وذات الخزنة كتبها أكثر مما رأيته سابقا ، وبها مصاحف كريمة ذات خطوط أعجمية أنيقة مذهبة ومونقة للغاية القصوى ولها صناديق ووجهها وسقفها من الزجاج مقفولة لحفظها ولا يحلها إلا القيم عند التأكد ، ففتحها لي وتشرفت بها.
ثم رحلنا من هاته البلدة قاصدين باريس في مرحلة واحدة ولما كانت المرحلة بعيدة آثرت كراء مخدع في الرتل ذي فرش ومستراح ولزم لذلك إعلام مدير الرتل من قبل وقت الركوب لكي يحضره على الصفة التي نريدها ولكي يعلم موقف الرتل في حدود فرنسا بإحضار مثله في رتلهم حيث أن الركاب ينتقلون هناك من الرتل الطلياني إلى الرتل الفرنساوي ، فركبنا في الساعة الثامنة بعد الظهر ليلا في مركبة ذات مخدع له ثلاث مساطب فرشها حريرية وكل مسطبة تنفتح فتستطيل إلى أن تصير فراشا له وسادة وقد اخترتها بحيث يكون الراكب فيها مواجها إلى جهة السير ، لأن عكسه يورث لي دوارا. وفي وسط المخدع باب يدخل منه إلى محل ذي مستراح في أحد جهتيه ومقابله محل ذو أنبوب للماء ينفتح وينغلق يجري منه الماء وذو إناء ينزل منه الماء المغسول به وبه مرآة بحيث يستطيع الإنسان التوضي هناك وإصلاح لبس ثيابه ، وفي المخدع أيضا مرآة ومائدة تنفتح من جهة الحائط الموالي لمحل المرافق حتى أن الإنسان يقضي هناك جميع حاجاته بغاية الراحة ، وإنما رفعنا معنا مناديل الوضوء وبيت إبرة لمعرفة القبلة في صندوق صغير من الجلد فيه بعض الثياب ومناديل الأنف ، وإذا حان وقت الصلاة نصلي بلا تعب سوى أن الأتباع ينزوون إلى جهة غير القبلة ولمثل هذا الإطلاق يتحرى الإنسان في الركوب مع الرفقاء لكي لا يكون عليه حرج فيما يريد ، كما أنه إذا حان وقت الأكل ووقف الرتل في إحدى المواقف على البلدان ننزل إلى محل الأكل فنجد فيه ألوان الطعام والفواكه فنشتري ما نريد ونحمله إلى مخدعنا لكي نأكل بالإستراحة إذ الأكل في المواقف يلزم أن يكون عاجلا خوف سفر الرتل ، والرتل ولئن كان يقف بعد كل نحو نصف ساعة أو ساعة على البلدان ، غير أن وقوفه لا يطول إلا بقدر ما ينزل الركاب القاصدين تلك البلدة ويركب منها غيرهم أو أخذ المزجية الماء أو الفحم أو إبدالها بغيرها إذا تمت ساعات نوبتها بحيث أن الحصة أطولها عشر دقائق ، أما في وقتي العشاء والفطور فيقف الرتل نصف ساعة أو أزيد بقليل ويعلم الركاب جميع ذلك من المنادي الذي ينادي عند وقوف الرتل رافعا صوته بقوله : «بلد كذا» ، ويسمى البلد الذي وقف عليه وكذا دقائق ، أي يقف كذا دقائق ، ويفتح الأبواب للمركبات فينزل من يريد النزول ولو لقضاء ضرورة ويرجعون على عجل.
واستمر بنا السير إلى أن وصلنا لجبال المنسني الشاهقة وطفق الرتل يجري بين صعود ونفوذ في أنفاق واحدا بعد آخر إلى أن جاز في نفق استمر في الجري فيه خمسة وعشرين دقيقة غير أنه دون السير المعتاد وهو أطول نفق في أوروبا وصناعته من عجائب صناعة