ذلك اعتساف الأعراب بقطعهم للطرق وتعديهم على قوافل الحجاج إذا تأخر عنهم ذلك المرتب أو شيء منه. حتى أن بعض المتوظفين الذين لهم يد في توزيع ذلك المال ربما تساهل في تنقيص شيء بأولئك الأعراب من مرتباتهم فيثورون ويعثون في الأرض بالفساد ، ونشأ عن ذلك قلة الأمن في جميع الجهات حتى أن المدينة المنورة على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام كثيرا ما تبقى محصورة ويدافع عن أسوارها وأبوابها من حصونها بالمدافع والطرق منقطعة عنها وتتضايق أهلها لقلة القوت والحبوب ، ويتطاول الأعراب على ما حولها من البساتين بالتخريب والفساد فإذا كان هذا حال المدينة فما بالك بغيرها؟ إلّا القرى التي هي لنفس القبائل ممّا لا يزرع حوله إلّا النخيل ، فلذلك ضعف الأمن وقل العمران وجدبت الأرض مع أنها صالحة للزراعة وفيها عيون كثيرة أحدثها المتقدمون في عصر الخلافة وما قرب منه ، وقد شاهدت في كل من بلدي الصفرا والجديدة عينا غزيرة الماء عرضها أزيد من ذراع ونصف وعمقها أزيد من ثلاثة أذرع جارية في غاية العذوبة ، غير أن ماءها حارّ فإذا رفع في الأواني برد وصلح للشرب وهو صالح جدّا للزراعة ، لكنه الآن ليس عليه إلّا بعض نخيلات وباقيه يسيح على الأرض إلى أن يغور فيها ، وقد ذكر في خلاصة الوفاء في أخبار دار المصطفى صلىاللهعليهوسلم عيونا وآبارا كثيرة على ذلك النحو لم يبق الآن منها منتفعا به سوى ما ذكرناه ، وكذلك الغابات والآجام التي بقرب المدينة وغيرها كلها ذات أشجار مثمرة وغير مثمرة صالحة لأخذ الأخشاب للبناء وهي الآن مهملة ولا ينتفع أهالي البلدان إلّا برقاب شجر النخل ممّا حولهم وبقية الخشب يؤتى به إليهم من الهند وغيره مع أنه حولهم مبذول ، والمانع من الوصول إليه عدم الأمن والجهل بكيفية القطع هذا فضلا عن الأراضي الخصبة الوسيعة الصالحة للزراعة ، وأما بقية النباتات فقد كان سيدنا عمر رضياللهعنه حمى في وادي القرى جهة تكفي أربعين ألفا من الخيل المسبلة للرعي فيها ، ثم زاد بعده سيدنا عثمان ومن بعده إلى إضعاف ذلك المقدار فيا أسفا على الخوف في بلاد الأمن ، وتلك العوائد وإن كان القصد منها حسنه فقد آلت إلى سيئه إذ لو انقطع عنهم ذلك المدد ومن تجرأ على السبل عوقب ، وأقيمت الشريعة حق القيام لأقبل السكان على العمران وكفى الله المؤمنين غوائل الطغيان ، وما الله بغافل عما يعملون.
مطلب في المعارف
من البديهي أن الذي ذكرناه في الصنائع من جهة الرواج والكساد هو أساس أيضا في المعارف ، فالمعارف الآن بالحجاز على غاية من الخمول وما يوجد منها إنما هو محصور ومقصور على خصوص البلدين المكرمين ، فيوجد في كل منهما بعض دروس في المسجدين المحترمين في بعض العلوم الدينية وبعض وسائلها ، فيوجد من الوسائل قليل من دروس النحو والمعاني ، ومن المقاصد بعض دروس في التفسير والحديث والفقه على اختلاف مذاهبه ، وإن يكن يوجد بكل من البلدين الأكرمين علماء أجلة لكنهم نبغوا في أقطار اخرى ثم جاوروا الآن هناك إلّا ما ندر من بعض الأهالي الذين تلقوا العلم هناك من