يده للتقبيل قط ، بل كان كل من أراد أخذ يده للتقبيل هو يفتح يده ليأخذ يد مريد تقبيل يده. وكان يكتب في مكاتيبه ومراسلاته : من أحقر الورى أحمد الترمانيني. وكان كثيرا ما يقول : لو أطاق جسمي النار لما سألت ربي الجنة ، فإني أستحي أن أسأله دار كرامته.
وانتفعت به الطلبة طبقة بعد طبقة. وكان يحب أن لا يأكل من المعلومات التي له ، بل يفرقها ويأكل من ربح التجارة ، ولا يأكل من أموال الزكاة إلا عن ضرورة ، ويقول إنها تورث ظلمة في القلب. وكان يكره كل شيء فيه شائبة رئاسة طبعا فلا يمكن أحدا يمشي خلفه ، ولا يأتي حاكما ولا واليا ولا قاضيا قط ، وهم يتمنون تقبيل قدمه فما يمكنهم أبدا. ومرة أراد وال أن يقبل يده بالقوة فما أعطاه الشيخ يده ووقع طربوش الوالي من على رأسه إلى الأرض وما قدر على أخذ يد الشيخ ، وكانت تلك الواقعة في جامع الرضائية بمحضر من الناس منهم العلماء والخطباء والطلبة ، ولا يبعث لهم ورقة في قضاء حاجة بل يتوسل الله تعالى فتقضى كما يحب. وكان الموت نصب عينيه ، فهو جالس في الدنيا جلوس رجل مستوفز يريد النهوض.
وقد اشتهر بالهمة بين أهل العلم فكان يجلس قدر أربع ساعات في الدرس على ركبتيه ولا يمل وكأن جسمه من حديد ، ومع هذا يكتب ما يرد عليه من الإفتاء بالأجوبة الحسنة لأهل حلب ولغيرهم من إقليمها ، ويكتب على هوامش نسخه التي يقرؤها للطلبة ، ويؤلف في كل شيء رأى فيه على الطلبة صعوبة تأليفا يقرب عليهم مسافة الطريق. وكانت دروسه مطرزة بالحكم الإلهية والآداب اللدنية حتى دروس النحو والمنطق وعلوم العربية.
وبالجملة كان مفردا في علمه وأخلاقه وأحواله وهمته وزهده وورعه وغير ذلك ، وقد تشرفت بقراءة جملة من الكتب عليه (سردها وقد ذكرناها في ترجمته وختمها بقوله) :
وقد قرأت على مشايخ عظام كتبا من فقه ونحو وقراءة وغير ذلك وانتفعت بهم ولله الحمد ، ولكن ما انتفعت على شيخ منهم مثل انتفاعي عليه ، جزاه الله عن أهل إقليمه خيرا ورفع له في الدارين قدرا. ا ه.
أقول : لم يذكر الشيخ عمر الطرابيشي تاريخ وفاة هذا الأستاذ الجليل لتقدم وفاته عليه ، وكانت وفاته بعد عصر يوم الأحد ، ودفن صبيحة يوم الاثنين في الرابع عشر من شهر