أدبه وأخلاقه :
توفيت والدته وهو في أول سن التمييز ، فعهد والده بتربيته إلى خالة له من بيوتات أنطاكية من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق لا سيما في هذا الزمان ، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع ، فنشّأته على أدب اللسان والنفس ، فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه معجبا بأناته حتى كنت أقول : إنني أراه يتروى في رد السلام ويتمكث في جواب ما يجيبه عدة ثوان ، ولا أكاد أعرف أخلاقا أعصى على الانتقاد من أخلاقه ، ولقد كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد :
يعتصم الحلم بجنبي حبوتي |
|
إذا رياح الطيش طارت بالحبى |
لا يطّبيني طمع مدنّس |
|
إذا استمال طمع أو اطّبى |
والحمد خير ما اتخذت جنة |
|
وأنفس الأذخار من بعد التقى |
علمه ومعارفه :
نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسا دقيقا ، وكان محيطا بها يكاد يكون حافظا لها ، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع ، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين.
ولا أعلم أنه برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ، ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن بفهم وعقل بحيث إذا أراد الاشتغال به عملا أو تأليفا أو تعليما يتسنى له أن ينفع نفعا لا ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابا في طبائع الاستبداد لم يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه.
على أن الفقيد لم يتعلم شيئا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة ، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية. أرأيت عقلا يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم لم يأخذه بالتلقي ، وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها ، كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس