معجزة للكتاب السياسيين. وقد زعم زاعمون أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب لفيلسوف إيطالي. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة من حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرا.
وإذا لاحظ مع ذلك أن هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في (المؤيد) ثم مدها صاحبها مد الأديم العكاظي وزاد فيها فكانت كتابا حافلا يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى. وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلا وزاد فيه كثيرا يعلم علم اليقين أنه ينبوع علم هذا الرجل صدره ، وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانا وتفجيرا. نعم إنه قال في مقدمته إن بعضه مما درسه وبعضه مما اقتبسه. وإننا نعلم أنه لم يولد إنسان عالما ، ولكن فرقا عظيما بين من يحكي كلام غيره كآلة (الفوتوغراف) وبين من يحكم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح.
من كان له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في العلوم العقلية والكونية ، وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.
وجهته الأخيرة :
وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة. فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها ، ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية. ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار ، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ، وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي ، وعرف حالة البلاد الزراعية ، وعرف كثيرا من معادنها حتى إنه استحضر نموذجا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي [من موانىء الهند] وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به في سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقية الشرقية ، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق فيه الإفرنج.