الباب الاول في صدر هذه المنزلة
قال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب : ان الله تقدس وعلا لما خلق الاشياء بقدرته وفطرها بحكمته أثبت كل مخلوق في حقه ورتب كل مصنوع على كنهه ، وجعل لكل من جميع ذلك ما يحتاج اليه ويكتفي به فخلق الملائكة المقربين أحياء مميزين ، مستغنين عن التغذي ، والتناسل وما يتبعهما مما الحيوان محتاج اليه غير مستغن (١) عنه ، وخلق البهائم وما يجري مجراها من الحيوان غير المميز محتاجا الى التغذي والتناسل ، وما يتبعهما مما لا يستغنى الحيوان عن مثله ، وجعل الانسان قصدا لاستكمال القدرة واستيعاب الحكمة ممتزجا من صيغة الملائكة بالتميز ، ومن صيغة الحيوان غير المميز بالتغذي والتناسل وما يتبعهما مما لا يجوز مفارقتهما له ، فلما حل في الانسان من بين سائر الحيوان قوة التمييز الغالبة في علا شأنه وقهر الحيوان كله وصار جميعه مذللا ومتصرفا على مشيئة واختياره ، ولما شارك سائر الحيوان بما شاركه فيه حصلت فيه أموال مختلفة وأسباب متنازعة اذ كان مركبا من قوة الاهمية ومادة أرضية ، وصار لا في (٢) منزلة الملائكة المقربين عاليا ولا في محلة سائر الحيوان البهيمي مبطوحا ، وجعله الله لاختلاط أحواله مكلفا مأمورا منهيا ، واحتاج بما فيه من قوة التمييز أن يسوس ما قد خلط فيه من البهيمة ولكثرة تصاريف ما في قوة التمييز من الافعال
__________________
(١) في س : مستعين عنه.
(٢) في ن ، س : وصار في منزلة.