الباب الخامس
في السبب الذي احتاج له الناس الى المدن والاجتماع فيها
لما كانت ما قلنا أفعال النفس (١) المميزة ، وتصاريفها كثيرة مختلفة ، وحاجات الانسان بسببها وبسبب والجسم الذي لم يكن النفس في هذا العالم بد منه ، واسعة منتشرة ، وتبعت هذه الاحوال الصناعات والمهن فصارت على حسبها في الكثرة ولم يكن في وسع انسان واحد ، استيعاب جميع الصناعات الكثيرة المتفرقة ، وكان لابد للناس من جميعها ضرورة قادتهم الحاجة الى الترافد ، واستعانة بعضهم ببعض ليكمل باجتماع جميعهم ما لم يكن بد ضرورة منه ، لان هذا يبذر لهذا قمحا يتقوته وهذا يعمل لهذا ثوبا يلبسه ، وهذا يصنع لهذا بيتا يكنه ونشره ، وهذا ينجز لهذا بابا يغلقه على بيته ، وهذا يخزر لهذا خفا يمنع به الافات عن رجله ، وغير ذلك ، مما لا يكاد العدد يدركه من فنون الصناعات وضروب الحاجات ، لانه لم يكن في استطاعة انسان واحد أن يكون فلاحا ، نساجا ، بناء ، نجارا ، أسكافا ، ولو انه كان محسنا لهذه الصناعات كلها ، لم يف وحده بما يحسنه منها ثم يجوز بعد هذا كله ، ان تأتى صناعات لا يتأتى للواحد من الناس النفاذ في جميعها كالطب والفلاحة مثلا فأنه لم يكن يتأتى لانسان واحد ، أن يأخذ السبيل فيقلب الارض قلبا دائما ، وهذه الحال محتاجه الى الغلظة والجسارة ، فان الفلاح ان لم يكن غليظا ،
__________________
(١) في نسخة ت : أعمال الناس وهو خطأ ، وفي نسخة س : أفعال الناس.