كتابه (١) عن بعض الأعلام كلاماً يعرب عمّا قلناه ، قال : إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدية إلى تحريف ما فيها ، وإندارس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فيه تحريف ، إلاّ قوّموه ، حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة البيضاء على ملئ الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة عن التحريف ، ومصونة عن التصحيف.
ربّما يختلج في اذهان بعض القصر من الناس عدم مشروعية الاجتهاد الدارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه في هذه الأعصار أخذ لنفسه صورة فنية ، وجاء على طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنية على سماع الأحكام من النبي والأئمّة وبثّها بين الناس من دون أن يجتهد الراوي في تشخيص حكم الله ويرجّح دليلاً على الآخر ، أو يقيده أو يخصّص واحداً بالآخر ، إلى غير ذلك من الاُصول الدارجة في زماننا.
إنّ ذلك أشبه شيء بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين :
الأوّل : أنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وأعمال النظر في الروايات ، والتدقيق في دلالتها ، وترجيح بعضها على بعض ، كان موجوداً في أعصارهم ، دارجاً بين أصحابهم فإنّ الاجتهاد وإن توسع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاًعظيماً ، إلاّ أنّ أصل الاجتهاد بالمعنى الجامع بين عامة مراتبه كان دارجاً في تلك الأعصار وأنّ الأئمّة أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم ، وكانت سيرة الناس الرجوع إليهم من دون تزلزل وتردد ، أمّا ما يدل
__________________
(١) ابانة المختار ، مخطوط نحتفظ بنسخة منه.