هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه ، وكتابة أي صحيفة عنه ، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب ، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه : ( وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ) ( الحج ـ ١٨ ) وقد قال سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه ، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع ، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فالله سبحانه نفى عن نبيه ، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.
ثم إنّه عزّ اسمه ، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم ، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين ، إذ لو كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في برهة من عمره تالياً للكتب ، وممارساً للصحف ، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه ، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات ، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة ، تهتز منها النفوس وترتاح إليها القلوب ، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه ، مسحة حق أو لمسة صدق.
وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان : ٤ ـ ٥ ) فالله سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة ، والمبطلين منهم ، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه : ( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس ـ ١٦ ).