حتى سجلوا الأبار التي شرب منها ، والخمرة التي كان يصلّي عليها ، إلى غير ذلك من نوادر الاُمور التي لا يهتم بذكرها وضبطها بالنسبة إلى البشر العاديين.
كل ذلك دليل على شدة ما كان يتمتع به النبي من ود وحب عريق ، إلى حد قيض همة ثلة جليلة من فطاحل المسلمين وأكابرهم لضبط وتسجيل كل ما يرجع إليه كبيراً أو صغيراً شرعياً أو عرفياً (١).
فألّفوا في كل ناحية من نواحي حياته كتباً زاخرة ورسائل طافحة أو عقدوا لها فصولاً في كتب السير والتاريخ ، ولقد زخرت المكتبة الإسلامية بأثار هذا النشاط بل زخرت مكتبات اُخرى في لغات واُمم اُخرى بكتب ورسائل في هذا المضمار إلى حد يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً يخالجه مزيج من الاعجاب والمهابة.
والعجب أنّ الركب بعد سائر لم يقف ، ولم يفتر ، وهذه الكتب مع كثرتها لم تشبع نهمتهم ، وما قضت وطرهم في تحليل حياة النبي ، حتى انّنا نرى الأكابر من العلماء في كل عصر وجيل إلى عصرنا هذا ، يكتبون كتباً زاخرة في حياة النبي ويؤلّفون رسائل طافحة بالتحقيق والتحليل ، حتى يغنوا بذلك الناشئ الجديد عن أساطين التاريخ وأفانين الرواية ورسائل المستشرقين ويقدمون له ما يسد جوعته ويجعل المسلم الحر يرتشف من المنهل العذب.
وعلى ضوء هذه الكتب والجهود الجبارة التي تحمّلها لفيف من علماء المسلمين بل فئة كبيرة منهم ، لم يتركوا في حياة النبي مبهمة إلاّ كشفوا أستارها ورفعوا النقاب عن وجهها ، أو جانباً مجهولاً إلاّ حدّدوه وعيّنوه بأدق وجه وأنصع بيان.
ولم تكن عناية القرآن ببيان نواح من حياة النبي الجليلة وشؤونه الدقيقة بأقل من
__________________
(١) راجع الطبقات الكبرى ج ١ ص ٣٦٠ وتاريخ الطبري ج ١ ص ٤١٧ ـ ٤٢٨ وبحار الأنوار ج ١٦ ص ٨٢ ـ ٢٢٩ وغير ذلك من المجاميع التاريخية والحديثية.