فهلك لهم الخفّ والحافر ، (١) وضاق ذرعهم (٢) بالحصار من كلّ جانب ، وراسل بعضهم في الطاعة خفية ، فارتاب بعضهم من بعض ، فانفضّوا ليلا من الجبل ، وأبو زيّان معهم ، ذاهبين إلى الصحراء ؛ واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلّفهم. ولما بلغوا مأمنهم من القفر ، نبذوا إلى أبي زيّان عهده. (٣) فلحق بجبال غمّرة ، ووفد أعيانهم على السّلطان عبد العزيز بتلمسان ، وفاءوا إلى طاعته ، فتقبّل فيئتهم ، وأعادهم إلى أوطانهم. وتقدّم إليّ الوزير ـ عن أمر السّلطان ـ بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع ، للقبض على أبي زيّان في جبل غمّرة ، وفاء بحقّ الطاعة ، لأن غمّرة من رعاياهم ، فمضينا لذلك ، نجده عندهم ، وأخبرونا أنّه ارتحل عنهم إلى بلد واركلا (٤) من مدن الصحراء ، فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان ، فانصرفنا من هنالك. ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم ، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة ، وخاطبت السّلطان بما وقع في ذلك ، وأقمت منتظرا أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى حضرته ، فارتحلت إليه.
فصل
وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم والنثر ، والمعارف والأدب ، لا ساجل مداه ، (٥) ولا يهتدى فيها بمثل هداه.
__________________
(١) الخف للبعير والناقة ، بمنزلة الحافر للفرس. وفي الحديث : «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ؛ فالخف الإبل. والحافر الفرس ، والنصل السهم يرمي به. ويكون الحافر للخيل والبغال والحمير.
(٢) ضاق به ذرعا : مثل يضرب للذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر ، والاقتدار عليه.
(٣) نبذ العهد : نقضه ، وألقاه إلى من كان بينه وبينه.
(٤) واركلاWargla) عرضها الشمالي ٣٢ ، وطولها الشرقي ٢٥ ـ ٥) : مدينة بصحراء الجزائر في جنوب مدينةTuggurt ، ويصل بينهما طريق تسلكه القوافل. وتقع في واحة بها ماء وكلأ ونخيل ؛ وبها تسمى الناحية كلها. ويقال لها : «واركلان» ، و «وارجلن». انظر ياقوت ٨ / ٤١٤ ، الإدريسي ص ١٢٠ بغية الرواد ٢ / ٢٣ ، ٢٣.
(٥) المدى : الغاية.