مقدمة المحقق
حينما اخترت «مقدمة ابن خلدون موضوعا لدراستي ، وجب عليّ أن أعرف ابن خلدون مؤلفها ، وكانت معرفته عن طريق حديثه عن نفسه من أهم ألوان هذه المعرفة وأوكدها ؛ ومن هنا قرأت هذا الكتاب طلبا لمعرفة ابن خلدون ، فعرفته منه على الصورة التي أراد أن يتصوره عليها الناس. ثم قرأت بعد ذلك ما كتبه عنه معاصروه ومن تبعهم ، فوجدت صورة أخرى غير التي عرفتها منه ، وعدت إلى ابن خلدون مرة أخرى وفي ذهني عنه صورتان ؛ صورته كما رأى نفسه ، أو كما أراد أن يراه الناس ، تأنّق في صنعها ، واستمسك بظلالها وألوانها. وصورته كما رآه معاصروه ، أو كما أرادوا أن يروه ، ويراه معهم الناس ، عرف ابن خلدون أكثر معالمها فنكرها في ألم وترفّع ؛ وهو اختلاف يثير الرغبة في تعرّف أسباب الموافقة ودواعي الخلاف (١).
وهكذا قدّر لي أن أقرأ الكتاب قراءة مقارنة ، رغبة في الوصول إلى معرفة أقرب صور ابن خلدون إلى الحقيقة.
وعزّ عليّ أن تضيع قراءتي لهذا الكتاب ، وهو المفتاح الأول لمعرفة شخصية ابن
__________________
(١) رأي ابن خلدون في نفسه ، ورأي معاصريه فيه بمصر بوجه خاص ، لا يكادان يلتقيان ، والقول في بيان أقربهما إلى الحق أوسع من أن يعالج في مثل هذا المقام.