من هذا يتضح لنا أنّ الآراء الجغرافية لابن خلدون يجب استجلاؤها لا اعتمادا على «الرحلة» بل من مؤلّفه التاريخي الضخم ، الذي يحمل عنوانا تغلب عليه الصنعة ، هو «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». وقد ظهر حول هذا الكتاب عدد كبير من الأبحاث لا تخصّ في الواقع مؤلّفه التاريخي نفسه بقدر ما تتعلّق بمقدّمته المشهورة التي تبلغ في واقع الأمر ثلث حجم الكتاب. وجميع هذه أبحاث تتّفق في جوهرها على أن ابن خلدون لا يرتفع في القسم التاريخي من مصنّفه إلى مستوى تلك النظريات التي يعرض لها في المقدّمة. أما الأقسام المختلفة لتاريخه فليست متساوية بالطبع من حيث القيمة ، فقد لاحظ أماري مثلا ، وذلك في كلامه عن صقلية ، أنّ ابن خلدون يكتفي بنقل المادّة التاريخية دون أن يمحّصها ، شأنه في هذا شأن المؤرخين الآخرين ، ولكنّه يقدّم لنا في مقابل هذا مادة وفيرة في تاريخ البربر لم تكن معروفة قبله ؛ كما أن الفصل الذي أفرده لتاريخ الدويلات النصرانية في إسبانيا يشرّف الأدب العربي بأجمعه كما قال دوزي Dozy. وإذا كان من المستحيل كما رأينا اتخاذ موقف سلبي تام من مصنّفه التاريخي فإنّ مقدّمة كتابه تمثّل في مجموعها أثرا لا مثيل له لا بالنسبة لعصره فحسب ؛ بل وبالنسبة للأدب العربي بأجمعه. وفيها يفسّر ابن خلدون التاريخ لا على ضوء تطور النظم السياسية كما فعل اليونان ، بل على ضوء تطور الأوضاع الاقتصادية للمجتمع البشري في صوره البدوية ، والحضرية ، والمدنية. ولا يخلو من الطرافة ، من وجهة النظر الجغرافية ، أن نلاحظ أنّه يوزّع مادّته التاريخية لا على أساس الترتيب الزمني الذي سار عليه المؤرّخون ، بل على أساس الدول الحاكمة في كلّ قطر مراعيا في ذلك الترتيب الجغرافي.
أمّا فيما يتعلّق بالجغرافيا خاصّة فإنّ «المقدّمة» مخيبة للأمل شيئا ما ، ففيها نبصر ذلك الانفصام المعهود في الأدب العربي بين المادة الجغرافية الواقعية من ناحية والاستنتاجات
النظرية المبنية عليها من ناحية أخرى ؛ وحتى في هذا المجال الأخير فإنّ ابن خلدون يبدو ناقلا متبعا بصورة لم تكن متوقّعة من شخص في مثل ذكائه. ولعلّه ممّا يسترعي النظر حقّا أنّ الفصل السادس من المقدّمة المكرّس للعلوم وتصنيفها ، والذي