ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها إلى المغرب ،
والكتابة عن السّلطان أبي عنان
لم أزل منذ نشأت ، وناهزت مكبّا على تحصيل العلم ، حريصا على اقتناء الفضائل ، متنقلا بين دروس العلم وحلقاته ، إلى أن كان الطاعون الجارف ، وذهب بالأعيان ، والصّدور ، وجميع المشيخة ، وهلك أبواي ، رحمهماالله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الآبلي ، وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين ، إلى أن شدوت بعض الشيء ، واستدعاه السّلطان أبو عنان ، فارتحل إليه ، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين ، المستبدّ على الدولة يومئذ بتونس ، إلى كتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحق. وقد نهض إليهم من قسنطينة صاحبها الأمير أبو زيد ، حافد السّلطان أبي يحيى في عساكره ، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك ، فأخرج ابن تافراكين سلطانه أبا إسحق مع العرب ، أولاد أبي الليل ، وبثّ العطاء في عسكره ، وعمّر له المراتب والوظائف. وتعلّل عليه صاحب العلامة أبو عبد الله بن عمر بالاستزادة من العطاء ، فعزله ، وأدالني منه ، فكتبت العلامة للسلطان ، وهي وضع «الحمد لله والشّكر لله» ، بالقلم الغليظ ، مما بين البسملة وما بعدها ، من مخاطبة أو مرسوم ؛ وخرجت معهم أول سنة ثلاث وخمسين. وقد كنت منطويا على مفارقتهم ، لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي ، وعطلتي عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب ، وانحسر تيّارهم عن إفريقية ، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ ، فاعتزمت على اللحاق بهم ، وصدّني عن ذلك أخي وكبيري محمد ، رحمهالله. فلمّا دعيت إلى هذه الوظيفة ، سارعت إلى الإجابة ، لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب ، وكان كذلك ؛ فإنا لما خرجنا من تونس ، نزلنا بلاد هوارة ، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض ، بفحص مرماجنة ، وانهزم صفنا ، ونجوت أنا إلى أبّة (١) ؛ فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوشتاتي ، من كبراء
__________________
(١) أبة بضم الهمزة ، وتشديد الباء المفتوحة : بلد بينها وبين القيروان ثلاثة أيام. (تاج العروس (أب) ياقوت ١ / ٢٤٤.