ثم كرّر ذكرها في مواضع كثيرة في جملتها ما يقتضي الكشف عن نظومها وتصاريفها لما يكشفها من الغموض ، وكان مبنى التأليف الذي هو مبني على كتب لا يتم من دون الكلام عليها بترتيبه ، بأن جعلتها مقدّمة ثم تجاوزت إلى ما سواها والله المعين على تسهيل المراد منه بمنه.
فمن ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٣] الآية ، وصف الله تعالى نفسه فيما بسط من كلامه هنا بفصول أربعة ، كلّ فصل منها عند التأمّل جملة مكتفية بنفسها عن غيرها ، ودالة على كثير من صفاته التي استبدّ بها.
فالفصل الأول قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، والمعنى في قوله : بالحق ، أنّ الحكمة البالغة أوجبت ذلك ، ففطرها ليدلّ على نفسه بها ويظهر من آثاره العجيبة فيها ما تحقّق إلهيته وتثبت قدمه ، وربوبيته ويظهر أنّ ما سواه مدبر مخلوق ومسخّر مقهور ، وأنه الحق تمّ له ما أحدثه ، وأنشأه لا بباطل ، ووجبت له العبادة من خليقته بقول فصل لا بهزل ، فحجّته بيّنة وآياته محكمة ، لا تخفى على النّاظر ، ولا تلتبس على المتأمّل المباحث إذ كانت الأبصار لا تدركه ، والحواس لا تلحقه ، فعرّف عباده قدرته ، وألزمهم بما غمرهم من منافعه ونعمة عبادته ، فلا مانع لما منح ، ولا واهب لما ارتجع ، أو حرم تسليما لأمره ورضى بحكمه.
والفصل الثاني قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٣] قوله : ويوم نصب على الظّرف ، والعامل فيه ما يدل عليه قوله الحق ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله : يقول لأنه قد أضيف اليوم إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقوله : فيكون معطوف على يقول ، وما بعد القول ، وهو جملة تكون حكاية في كلامهم ، وكن في موضع المفعول ليقول ، وقد أبان الله هذا المعنى في قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النّحل ، الآية : ٤] لأنّ معنى الحكاية ظاهر فيه ومفهوم منه ، وإذا كان الأمر على هذا فقوله : كن ، حكاية ، والمعنى فيه إيجاب خروج الشّيء المراد من العدم إلى الوجود. وقوله : فيكون بيان حسن المطاوعة من المراد وتكوّنه ، وليس ذلك على أنّه مخاطبة المعدوم ، ولكنّ الله تعالى أراد أن يبين على عادة الآمرين إذا أمروا كيف يقرّب مراده إذا أراد أمرا ، فأخرج اللّفظ على وجه يفهم منه ذلك ، إذ كان لا لفظ في تصوير الاستعجال ، وتقريب المراد أحضر من لفظة كن فاعلمه. وتلخيص الآية وإذا كان يوم البعث والنّشر والسّوق إلى الحشر يوجب وقوع المكون بقولنا : كن ، فيقع بحسب الإرادة لا تأخير فيه ولا تدافع ، لأن حكمنا فيه المحقوق الذي لا يبدّل ، ولأنّ الملك فيه للملك الذي لا يغالب ولا