اعلم أنّ الله تعالى قال في موضع من كتابه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦ ، ٢٧] ما قال على الموت لأنّ الموت إنّما نعدم به الحياة ، والله تعالى قال : كلّ من عليها ، ولم يقل حياة من عليها ، وقال بعده : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، والميت جيفة تبقى ، وإذا كان كذلك فلا فضيلة في البقاء مع الشركة فيه ، وإذا سقطت الفضيلة فلا تمدّح لرب العالمين ، وقال تعالى في موضع آخر : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٨٨]. وذكر في صفات نفسه هو الأول ، والآخر ، والظّاهر ، والباطن. وكلّ هذه الآي دالّة على أنّه تعالى يصير منفردا بالوجود ، كما كان منفردا به من قبل أن يخلق الخلق وأنه تعالى يفني كل ما خلقه إفناء لا يبقى له أثر ولا رسم حتى يصير بالفناء في حكم ما لم يخلق ولم يوجد ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة الروم ، الآية : ٢٧] وفي آخر : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩]، والمعاد هو وجود على صفة لا زيادة عليها ، وهو أن يتقدّم الوجود للشيء فيبطل ، ثم يعاد إلى الذي كان عليه من الوجود ، وإذا كان السمع قد أثبت معادا ، وحقيقة المعاد ما ذكرناه من أنّ ما سميّناه في الأول إحداثا ومحدثا سمّيناه ، وقد بطل واستجد الجادة في الثاني معادا ، ومستجدا فقد وضح معنى قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) والآي التي معها.
فإن قيل الذي يعرفه أهل اللغة من معنى الفناء هو نفاد المركب قليلا قليلا كنفاد الزّاد والاضمحلال والهزال هو تحلّل الأجزاء ؛ والاستحالة هو تغيّر مزاج الشيء. قلت : الفناء بطلان الشيء دفعة واحدة ، وهو ضد الإنشاء والاختراع فإذا تجاوزت هذا الموضع فاستعماله على ضرب من التّشبيه به فقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦] ، يريد أنّ جميع ما خلقه قبل الوقت الموعود للثّواب والعقاب يبطله بمعنى يخزعه ، إذا حصل فنى به الأجسام ، والأعراض كلّها. فناء الضّد بالضّد ، وليس ذلك المعنى بمقدور للعباد. والبقاء لا يجوز عليه ، فإذا أفناهم بعزته الغالبة بذلك المعنى أعادهم بقدرته الواسعة كما كانوا قبل الفناء ، ولا يصح ما أجمع عليه المسلمون من أمر المعاد والفناء إلّا على ما ذكرناه ، وهو اللغة والشّرع ، والنّاظر فيما ذكرناه بيّن له معرفة الفناء مثل ما بين له من معرفة المعاد. وحكمة وضع اللّغة لأنّ الذي ينقطع وجوده بالموت كالحي منّا ظاهر التميز عما لا ينقطع وجوده بالفناء ، وما أشبهه من الأعراض. وإذا كان كذلك فإنّا نثبته بالسّمع كما ثبت جواز كونه وخلق الله له بالعقل ولكلّ معرفة حقيقة إلى الله تعالى ، كما قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥]. ويكون من جملة ما استأثر بعلمه ، وإذا أعادهم حشرهم النّظر في أعمالهم في مواقف مختلفة ، كما قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [سورة الغاشية ، الآية : ٢٥ ، ٢٦]. وكما قال تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٧] ، وكما قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ