الجزء الأول
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي لا تحصى آلاؤه بتحديد ، ولا تعد نعماؤه بتعديد ، خالق الظّلم والأنوار بعجائب صنعته ، ومالك المدد والأقدار بغرائب حكمته ، فله في كلّ ما أنشأ وابتدع ، وفي جميع ما أوجب واخترع ، عند تناسخ الأزمنة في أهاليها وتعاقب الملل والدّول بين مترفيها ، آماد ورتب وآيات وعبر لا يجمع جملها إلّا إدراكه وعلمه ، ولا ينوّع تفاصيلها إلّا إحصاؤه وحفظه ، وإن كان كثير منها يحصله العيان ويصوّره الأذهان من الأفلاك وبروجها ، ومنازل النّيرين فيها واستمرار مسيرها في حدي الاستقامة والرّجعة والبطر ، والسّرعة ، وتكوير اللّيل على النّهار ، وتكوير النّهار على اللّيل وتبدّل رطوبتها وبردها وحرها ويبسها ولينها ، وتغيّر أدوار النّجوم في طلوعها وأفولها ، قال الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [سورة التكوير : الآيات ١٥ ـ ١٨] وفي الاختفاء عن بعض الأمصار وظهورها وتساوي الجميع في الدّلالة على حكم الآثار ، وله الخلق والأمر ، وإليه المرجع والمستقر ، تبارك الله أحسن الخالقين وصلاته على من اختاره للنّذارة ، وتبليغ الرّسالة ، فصدع بأمره وأدّى حقّ نعمته في خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.
أما بعد : فإنّ الإنسان وإن كان ذا لدد وخصام ، وجدال فيما يهوى وجذاب بتيقن الحوادث بوجه الثّبت ، ويتسبّب إلى الازدياد ، بحب التّوسع فيرى جلائل الأقدار كأنّها تواريه أو تلاعبه ، ويحسب غوائل الأخطار كأنّها تساوفه أو تسابقه ، ترشح بما رشح له عناصره عند الاختبار ، وتجليه لما هيئ له مكاسره لدى الاعتبار ، فهم فيما يتردّدون فيه طلعة خباءة ، وعن صفايا غنائمهم غفلة نومه لا يردون مستنكرا ، ولا يجدون عند الزّلة مستمسكا ، نجدهم على تفاوت من أجسامهم ، وأقدارهم ، ومناشئهم ، ومدارجهم ، وأسماحهم ، وإيابهم ، ومآخذهم في استقراء مآربهم ، وفي أداتهم ، ولغاتهم ، وصورهم وهيآتهم واقتراحاتهم وشهواتهم وأقواتهم ، ومطاعمهم وحرفهم ومكاسبهم ، وتباين ألسنتهم وألوانهم ، وعلى تنافس بينهم شديد ، وتحاسد في خلال أحوالهم عجيب ، وتضاغن يلوح من مستكن سرائرهم ، وتباغض يبوح به تداني جوارهم.