الباب التّاسع والخمسون
في ذكر أفعال الرّياح لواقحها ـ وحوائلها ـ وما جاء من خواصها في هبوبها وصنوفها
قال مؤرخ من خواص الجنوب : أنّها تثير البحر حتى يسودّ ، وتظهر كلّ ندى كائن في بطن الوادي حتى يلتصق الأرض ، وإذا صادفت بناء بني في الشتاء والأنداء أظهرت نداه وحسنه ، حتى يتناثر ويطيل الثّوب القصير ، ويضيق الخاتم في الإصبع ، ويسلس بالشّمال والجنوب تسرى باللّيل. تقول العرب : إنّ الجنوب قالت للشمال : إنّ لي عليك فضلا أنا أسري ، وأنت لا تسرين. فقالت الشّمال : إنّ الحرة لا تسري وقال الهذلي :
قد حال دون دريسة ماوية |
|
مسع لها بعضاه الأرض تهزيز |
الماويّة : التي تهبّ بالنّهار كلّه إلى اللّيل ثم تسكن ، قال الله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سورة سبأ ، الآية : ١٠] أي : سبّحي النّهار كلّه. ومسع الشّمال والدّريس : الثّوب الخلق ، والشّمال تستذري منها بأدنى شيء ، ويسترك منها رحلك ، وذرى الشّجرة والجنوب لا يستر منها شيء ، وربما وقع الحريق بالبادية في اليبيس ، فإن كانت الرّيح جنوبا احترق أياما ، وإن كانت شمالا فإنّما يكون خطأ لا يذهب عرضا. وللشّمال ذرى الشّجرة ، وذلك أن يجتمع التّراب من قبلها فيستذري بالشّجر ، فإن كان الشّجر عظاما كانت لها جراثيم ، وإن كانت صغارا ساوى التّراب غصونها ، ولا ذرى للجنوب ترى ما يلي الجنوب منها عاريا مكشوفا. والشّمال تذمّ بأنّها تقشع الغيم وتجيء بالبرد ، وتحمد بأنها تمسك الثرى ، وتصاحب الضّباب ، فتصبح عنها كأنّها ممطورة ، وتصبح الغصون وتنظف وأكثر ما يكون عن غب المطر ، فإذا ارتفعت الشّمس ذهب النّدى وتقطع الضّباب وانحسر ، وليس من الرّياح أدوم في الشّتاء والصيف من الشّمال ، كما أنّه لا شيء منها أكثر عجاجا وسحابا ، لا مطر فيه وهي هيف ، تقشر الأرض ، ويحرق العود من النكباء التي بين الجنوب والدّبور التي تهبّ من مغيب سهيل.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢]