وأما قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) فإن القوم لما تقرر الكلام عليهم واستمرارهم في لزوم الجحد ومباينتهم لنهج الحق جعل الله ابتداء الكلام خطبة على عادة العرب في مقاماتهم وعند تصرّفهم في منافراتهم لأنهم يبدءون في مقارضاتهم بحمد الله ، والثّناء عليه والصّلاة على رسوله يأخذون في مآربهم ويستقرّون في وجه القول مدارجهم لتكون طرق البيان بها أوسع ، وبراهين الموجبات فيها أثبت فقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي ابتدأ بالثناء على الله فيما آتاك من فضله واختصك به من كرامته ، ثم اتبعه بالتّسليم على إخوانك من الأنبياء الذين اصطفاهم الله كما اصطفاك ، وحمّلهم من أعباء الرسالة مثل ما حمّلك ، ثم سل هؤلاء الذين ينازعونك الأمر ، ويرادونك فيما تدعو إليه القول ، وقل الله خير أم ما تجعلونه شركاءه.
ومثل هذا من الكلام يستعمل مع من حقت عليه الشّماتة ولزمت الحجة وتبرأت منه المعذرة فيقرع لسوء اختياره به ويرى بعد ما بين أمريه فيه ، ثم أخذ تعالى في إحصاء نعم الله التي تفرد بإنشائها يقرّرهم على ما يضطرون إلى تسليمها ونقص يد المنازعة فيها من خلق السّماء والأرض وإنزال الغيث الذي تنبت به الحدائق ، ويحيي به الموات ، ويعيش منه الناس والأنعام كما قال تعالى في موضع آخر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢١] الآية. يقول : انظر كيف أنزل الغيث ، وكيف أحيي به الأرض؟ ثم جعله فيها ينابيع إلى أن أخرج به المرعى فجعله غثاء أحوى.
ووجه التّقرير بهذا تأنيسهم بما كانوا لا ينكرونه لأنهم كانوا معترفين بأنّ ما يدعونه من الشّركاء لم ينبتوا شجرها ، فكيف ما عداها ، وأنّ مثل الشّركاء في العجز عنها مثلهم في أنفسهم لا تباين ولا تمايز لتساوي أحوالهم وتقارب آماد قواهم ، فقال ذات بهجة ، ولم يقل ذوات لأنه لمّا كانت الجموع مؤنثة اكتفى بالتأنيث عن الجمع ومثله القرون الأولى ، والأسماء الحسنى قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] أم فيه لتحوّل الكلام ، عن حال إلى أخرى فهي أم المنقطعة لا المعادلة ، وفي قوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) هي المعادلة والمفسرة بأي ، وفي كلّ منهما تبكيت شديد وتعنيف بليغ وإن اختلف طريقاهما لأنّ قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] ممتزج بوعيد وتعجيب. وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ) [سورة النمل ، الآية : ٥٩] ممتزج بتسخير ولو قيل إلها بإضمار فعل جاز. ومثله:
أعبدا حلّ في شعبي غريبا |
|
ألؤما لا أبا لك واغترابا |
وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] حكم بأنّ الكلمة حقّت عليهم لعبادتهم ألا ترى أنه تابع بين البراهين السّاطعة والإلزامات الدّامغة ، فأخذ يسألهم عن