الأرض ومصيرها قرارا للخلق وما في خلالها من الأنهار ، وما ثبت بها من الجبال ، وعن البحرين والحاجز بينهما ، وعن إجابة المضطر ، وإغاثة الملهوف من يقيمها فيقول : من أنشأها وجعلها كذلك تكرّر التفريع ، ومثل هذا من القول مع المصر الجاحد أبلغ من كل وعيد ، وأوعظ من كلّ نكير. قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٢] يجري مجرى الالتفات في كلام البلغاء لأنه تعالى بعد تعداد آلائه عليهم وعلى جميع الخلق معهم ، وبعد إظهار الآيات البيّنة وذهابهم عن المناهج المستقيمة وأنّهم لا يرجون بالنّذر ولا يرعون للعبر.
قال : بلغت المقال في نكوصهم إليهم ويقبح فيما يؤثرونه من صوابهم لديهم : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، وهو لا يثبت بالقليل شيئا وإنما هو نفي خالص فكأنه قال : لا تذكرون شيئا ، ويجوز أن يكون انتصاب قليلا على الظّرف وعلى أن يكون صفة لمصدر محذوف قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٣] يريد من يسيّركم ويرشدكم إلى القصد والسّمت في تلك الحال ، (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٣] أي أمام الغيث ناشرة ، أو مبشرة ، فقد قرئ نشرا بالنّون ، وبشرا بالباء ، ومعنى النّشر ضد الطي أي تفتح الأرض ، وتعرج أطباقها للمطر والنّبات كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢] ، وختم الكلام بإعادة التّبكيت لأنّ هذه المسائل لا أجوبة لها تعالى الله عما يشركون ، ثم قال تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة النمل ، الآية : ٦٤] جعل الخطاب في هذا الفصل ، وفي فصلين قبله وهما : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) [سورة النمل ، الآية : ٦٢] و (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بلفظ المستقبل بعد أن ساق في أول الفصول الكلام على بناء الماضي فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] و (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) [سورة النمل ، الآية : ٦١] لأنّ بعض أفعاله تعدم وحصل محصل المستكمل المفروغ منه ، وفعل ما يساء في خلقه حالا بعد حال ، فهو كالمتّصل الدائم لذلك خالف الآخر الأول ، وقال بعد المسائل التي رتّبها معجزاتها : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) [سورة النمل ، الآية : ٦٤] على مقالتكم ، واستأنف تعليم النّبي صلىاللهعليهوسلم بما يورده عليهم في إنكارهم البعث واستعجالهم من النّشور بعد الموت لما قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) [سورة النمل ، الآية : ٦٧](وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٧](لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٨] فقال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [سورة النمل ، الآية : ٦٥] فما غاب عنكم كيف تحكمون عليه بالبطلان والامتناع ، وقد استوى المخلوقون في استبهام أمر الساعة عليهم فلا يشعرون متى يبعثون ألا تسمع قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٧] وإذا